بيان رئيس القضاة البريطاني بشأن البيانات التي ألقاها أعضاء اللجنة العرب

بيان رئيس القضاة البريطانى بشأن البيانات التى ألقاها أعضاء اللجنة العرب
” ملف وثائق فلسطين من عام 637 إلى عام 1949، وزارة الارشاد القومي، ج 1، ص 683 – 690″

بيان رئيس القضاة البريطانى
بشأن البيانات التى ألقاها
أعضاء اللجنة العرب (*)
في 33 فبراير سنة 1939

        اصغي رئيس القضاة بعناية واهتمام الى البيانات التى ألقاها في الجلسة الأولى – التى عقدتها اللجنة – أعضاء اللجنة العرب، وفيها يشرحون الآراء التى يعتنقها العرب عامة فيما يتعلق بالتفسير الصحيح لما يسمى “مكاتبات مكماهوت – حسين” وقد قرأ بعد ذلك بمثل تلك العناية وذلك الاهتمام المذكرة التى قدمها اليه المستر أنطونيوس في الجلسة نفسها.

        ونظرا لقصر الوقت الميسور لاعداد المذكرة الحالية قد توجد بعض.. نقط في بيانات العرب أو في مذكرة المستر أنطونيوس لم يتناولها الكلام على وجه التخصيص ، ولكن المرجو مع ذلك أن تكون هذه المذكرة كافية في ايضاح الآراء التى نأخذ بها حكومة جلالته فيما يتعلق بالمكاتبات التى هى موضوع الدرس.

        ويعرف أعضاء اللجنة أن جميع الحكومات التى توالت على المملكة المتحدة من سنة 1915 فصاعدا تمسكت بالرأى القائل بأن السير هنرى مكماهون قصد بمكاتباته مع شريف مكة في سنة 1915 وسنة 1916 وخاصة بكتابه المؤرخ في 24 أكتوبر 1915 أن تترك المنطقة المعروفة الآن باسم فلسطين، خارج دائرة الاستقلال العربى، وان المكاتبات المذكورة لم يكن لها يومئذ ولا يمكن ان يكون لها الآن، أى معنى آخر.

        على أن من الضرورى لفهم موقف حكومة جلالته، النظر في جميع الظروف المحيطة بالموضوع وعدم الاقتصار على ألفاظ المكاتبات نفسها.

        ويجب أولا، وفوق كل شىء، ان نذكر المركز الفريد الذى كان لفلسطين يومئذ، والذى لا يزال لها الآن باعتبارها أرضا مقدسة لا في نظر المسلمين وحدهم، بل في نظر المسيحيين واليهود أيضا، وباعتبارها بلادا تعنى بها وتهتم لها كل الدول الأوروبية والأمريكية. وهذا الاعتبار أهم عند المسيحيين واليهود منه عند المسلمين. لأن هذه البلاد تعد عند أصحاب الديانتين الأوليين الأرض المقدسة الرئيسية، بل الوحيدة على حين أنها عند المسلمين تلى الحجاز في المقام، وليس من المبالغة أن يقال: أن مقام فلسطين عند المسيحيين واليهود يعادل مقام مكة والمدينة عند المسلمين.


         (*) من كتاب ” وثائق القضية الفلسطينية ” اصدار جامعة الدول العربية

بيان رئيس القضاة البريطاني بشأن البيانات التى ألقاها أعضاء اللجنة العرب
ملف وثائق فلسطين من عام 637 إلى عام 1949، وزارة الارشاد القومي، ج 1، ص 683 – 690″

        وفضلا عن ذلك فان فلسطين ما كان يمكن أن تعد أرضا عربية صرفا حتي في سنه 1915، وصحيح أن أحد الناطقين بلسان العرب قال انها على العكس كانت “عربية صرفا” على خلاف الجهات الساحلية الى الشمال، وان هذا عامل يجب ادخاله فى الحساب عند تقدير الظروف المحيطة. ولكن يجب أن يذكر أنه بغض النظر عن الأهالى اليهود الذين كانوا فيها، فانها كانت غاصة بالكنائس والمدارس والمعاهد المسيحية من كل ضرب ونوع وكان آلاف من الحجاج المسيحيين والسياح يذهبون اليها في كل عام، وكانت هذه المعاهد مبعثرة في أنحاء البلاد وبعض البلدان – مثل بيت لحم – كانت مسيحية صرفا تقريبا. والواقع أنه لم يكن فيها – أى بيت لحم – في سنة 1912 سوى ثلاثمائة مسلم، من أحد عشر ألفا. وفي الناصرة كان عدد السكان خمسة عشر ألفا منهم عشرة آلاف من مذاهب مسيحية مختلفة – يونان ولاتين ومارونيين وبروتستانت – ولا شك في أن معظم هؤلاء المسيحيين كانوا عربا، ولكن كان هناك عدد كبير من المسيحيين الأجانب فضلا عن المعاهد المسيحية الأجنبية.

        ومن الجلى أن بريطانيا العظمى لم يكن لها حق أو سلطان في سنة 1915 يخولها أن تقول: انه اذا نجح الحلفاء في أن ينتزعوا من الدولة العثمانية أرضا لها هذه الاهمية في العالم المسيحى، فانها ستسلمها الى حكم “دولة اسلامية مستقلة أخرى” من قبل أن تحصل أولا على كل نوع من الضمانات لحماية الاماكن المقدسة المسيحية واليهودية ولكفالة الحرية في الوصول اليها على الاقل بمقدار ما كانت هذه الحرية مكفولة في عهد الدولة العثمانية.

        من أجل هذا، لا يكون مما يقبل عقلا أن يكون السير هنرى مكماهون قد أراد أن يعطى الشريف حسين وعدا اضافيا بأن تكون فلسطين داخلة في منطقة الاستقلال العربى. وأن في كون مسألة الضمانات لم تذكر قط، لدليلا ينفى كل شك في أن السير هنرى مكماهون لم يخطر له لحظة واحدة أن كتابه سيفهم منه أن فلسطين داخلة في هذه المنطقة. وانه لمعقول أن يعتقد المرء أن شريف مكة الذى أظهر غيرة مشروعة على الاماكن الاسلامية المقدسة في الحجاز لابد أن يكون قد قدر وأدرك الشعور المسيحى في هذه المسألة وعرف أنه ما من موظف بريطانى يستطيع أن يتعهد بضم فلسطين الى دولة اسلامية أخرى من غير ان يبدى تحفظات صريحة فيما يتعلق بالاماكن المقدسة المسيحية.

        ومن العوامل الأخرى العظيمة الأهمية أن ميناء حيفا كانت تزداد أهميتها بسرعة وهذه الميناء وغيرها من الموانى على الساحل الفلسطينى عظيمة القيمة من وجهة النظر البريطانية، اذا اعتبرنا مصالح بريطانيا العظمى الكبيرة في قناة السويس ولابد أنه كان من الواضح لكل مراقب مطلع أنه في حالة انتصار الحلفاء ستعنى بريطانيا بالحصول على ضمانات تمنع استخدام أراضى فلسطين ، ولاسيما موانئ مثل حيفا، للهجوم منها في المستقبل على أرض مصر.

        أما عن مصالح فرنسا فان من المعلوم أن فرنسا طالبت في سنة 1915، بأن يكون لها نفوذ عظيم جدا اذا لم يتيسر أن تكون لها السيادة الفعلية في مناطق واسعة وغير محددة بدقة في الشرق الأوسط. ولا بد أن يكون شريف مكة كان يعرف أن لفرنسا مطالب من هذا القبيل حتى من قبل أن يرد ذكر لهذه المطالب في المكاتبات

بيان رئيس القضاة البريطاني بشأن البيانات التي ألقاها أعضاء اللجنة العرب
ملف وثائق فلسطين عام 637 إلى عام 1949، وزارة الارشاد القومي، ج 1، ص 683 – 690″

فقد كان على اتصال بالوطنيين العرب في سوريا وحسبه هذا مصدرا للعلم بمطامع فرنسا اذا لم يكن ثم مصدر غير ذلك.

        هذه الاعتبارات نجعل من غير المعقول أن يكون السير هنرى مكماهون قد أهمل كل ذكر للمصالح الفرنسية والبريطانية فيما يسمى الآن فلسطين، الا اذا كان قد عد فلسطين خارجة، بطبيعة الحال وبالبداهة، عن المنطقة التى كان يعد العرب فيها بالاستقلال. وانه لمن العسير أن يفهم الانسان كيف يظن من يقرأ كتب السير هنرى، ويكون محيطا بالموقف السياسى العام في الشرق الاوسط، ومن غير بحث واستقصاء ان فلسطين كان في النية ادخالها في منطقة الاستقلال.

        ويجب أيضا أن يتذكر المرء كيف كان الموقف العام فىسنة 1915 فقد كانت تركيا مسيطرة على كل من سوريا وفلسطين، ولم تكن قد انهزمت بعد. وكانت فرنسا والروسيا حليفتين لبريطانيا. ولكن كان على بريطانيا أيضا أن تراعى دولا أخرى في أوروبا ولاسيما ايطاليا، فلم يكن في وسعها أن تقطع للشريف حسين عهودا تورطها في مشاكل خطيرة بعد الحرب، وتخلق لها مصاعب مع أهم دول.

        واذا رجعنا الى نص تعهد مكماهون في كتابه المؤرخ في 24 أكتوبر سنة 1915، فان هذا يجب أن يقرأ على ضوء مباحثات معينة دارت بين المندوب السامى البريطانى في فلسطين ومحمد شريف الفاروقى.

        وقد لا يكون الفاروقى ممثلا معتمدا لشريف مكة أو لزعماء الحركة الوطنية العربية في دمشق، وقد لا يكون هؤلاء الزعماء والشريف قد علموا بفحوى مباحثاته مع المندوب السامى في خريف سنة 1915، ولكن لا شك في أنه كان مطلعا تمام الاطلاع على آراء زعماء العرب وآمالهم. وما من عربى يمكن أن يكون قد أنكر – أو يمكن أن ينكر الآن – انه كان يضع مطالبهم عند حدها الادنى حين قال أن العرب مستعدون أن يقاتلوا في سبيل “ولايات حلب وحمص وحماة ودمشق” وانه لابد أن يكون قد أراد بكلمة “ولايات” ما يحيط بهذه المدن بأوسع المعانى، وانه ما كان يمكن أن يعنى أن العرب لا يقاتلون من أجل أى جزء من الاراضى الداخلة من حدود كليكيا الى خليج العقبة. وهذه المنطقة مهمة ، لأن العبارة التى استعملها، فيما بعد، السير هنرى مكماهون في كتابه، هى نفس العبارة التى استعملها الفاروقى.

        فالفاروقى هو اذن الذى قال: ” ان العرب قد بقبلون تحفظا عاما من بريطانيا خاصا بالاراضى التى لا يسعها أن تكون حرة في التصرف فيها دون اساءة الى حلفائها ومع أن حكومة جلالته لم تنشأ أن تبالغ في تأكيد هذه النقطة بدون اساءة الى حلفائها. لأن الفاروقى لم يكن مفوضا، الا أن هذا يدل على ما كان يدور في ذهن السير هنرى مكماهون حين قطع العهد.

        كل هذه الاعتبارات يجب أن تذكر عندما يراد تعليق معنى خاص ببعض الالفاظ في مكاتبات سنتى 1915، وقد تبدو المكاتبات بين السير هنرى مكماهون والشريف حسين أبعد ما تكون في هذا الوقت عن الوضوح والجلاء ولكن الظروف التى لخصت فيما سلف، والمشاغل العديدة.. التى كانت تستغرق وقت رجل في مثل مركز السير هنرى في ذلك الوقت، والحالة في بلاد العرب، كل هذه مسائل مرتيطة بدرس الوثائق. وهذا يصدق، على الخصوص، اذا نظرنا الى معنى التعهد على ضوء

 بيان رئيس القضاة البريطاني بشأن البيانات التى ألقاها أعضاء اللجنة العرب
ملف وثائق فلسطين من عام 637 إلى عام 1949، وزارة الارشاد القومي، ج 1، ص 683 – 690″

النيات المحتملة للفريقين، ولكنه يصدق أيضا اذا نظرنا الى المعنى على ضوء التفسير القانونى الواقعى لعبارة التعهد. فانه في حالة كهذه، أثارت فيها العبارة أو اللغة التى استعملت، خلافا وتخمينا، يكون من المشروع مراعاة الظروف المحيطة بالموضوع، عند محاولة الوصول الى البت فيما بجب أن يفهم من الألفاظ.

        فاذا راعينا جميع الظروف المحيطة يكون موقف الحكومة البريطانية اذن قائما على نقطتين رئيسيتين:

1 –

تحفظ جغرافى خاص، فيما يتعلق بالمنطقة التى كانت بريطانيا العظمى تستطيع أن تعد العرب فيها بالاستقلال.

2 –

تحفظ عام فيما يتعلق بهذه المنطقة نفسها.

        فأما عن الأول، فان رأى حكومة جلالته دائما أن عبارة ” أجزاء من بلاد الشام واقعة في غربى ولايات دمشق وحماة وحمص وحلب” تشمل كل ذلك الجزء من سوريا بما فيها ما يسمى الآن فلسطين، الواقع غربى المنطقة الادارية المعروفة باسم ” ولاية سوريا “.

        وصحيح أنه لم تكن هناك “ولايات” لحمص أو حماة، ولكنه صحيح أيضا أن كلا من دمشق وحلب كانت عاصمة ولاية، وكانت الاشارة الى دمشق خليقة بمفردها أن تكون كافية لتقرير ما يعنيه السير هنرى مكماهون أما حمص وحماة فقد أضيفتا كما هو ظاهر، لأن الفاروقى ذكرهما، ولبيان أن الاراضى التى تعد حمص وحماة أهم بلادها ينبغى أن لا تخرج من المنطقة المخصصة للحكم العربى، ومن البديهى أنه لم يكن المراد الاشارة الى ولايات لا وجود لها.

        وصحيح أيضا أن الاسم التركى الرسمى للولاية التى كانت دمشق عاصمتها هو “ولاية سوريا” ولكنه ما كان ينبغى أن يساء فهم هذه العبارة ولا سيما ان كان الكاتب وجد من الضرورى أن يستعمل كلمة “الشام” – حتى ولو أن هناك ولاية بهذا الاسم – ليتسنى له أن يصف وصفا شاملا منطقة جغرافية غامضة تشمل ولايتى الشام وبيروت وسنجق القدس المستقل واقليم لبنان وجزءا من ولاية حلب.

        وقد يكون مما يستحق الذكر في هذا الموضوع أن عبارة “ولايات دمشق الخ” ما كان الشريف حسين يحب أن يكون معناها، أو المراد بها، مساحات صغيرة تحيط مباشرة بالبلاد المذكورة كما قال أحد مندوبى العرب – اذا كان رئيس القضاة قد فهم ما سمعه منه على الوجه الصحيح. فى الجلسة الأولى – لأنه لو كان هذا هو المراد لكانت المنطقة التى حرم فيها العرب الاستقلال قد زاد امتدادها شرقا على خلاف ما يؤدى اليه التفسير الواسع للعبارة. واذن لكانت المنطقة غير العربية قد وصلت شرقا الى ضواحى دمشق والبلدان الأخرى، ولشملت أجزاء كبيرة من شرقى الأردن وأقساما كبيرة من سكة الحجاز الحديدية.

        ولا نكران أنه يمكن أن يقال انه لا توجد أرض شرقى ولاية حلب، وان كتاب 24 أكتوبر سنة 1915 الى الشريف لو أخذ في تفسيره برأى حكومة جلالته لما وصلت منطقة الاستقلال العربى الى البحر المتوسط، وان كان لم يذكر في الكتاب أنها لن تصل.

بيان رئيس القضاة البريطاني بشأن البيانات التي ألقاها أعضاء اللجنة العرب
ملف وثائق فلسطين من عام 637 إلى عام 1949، وزارة الارشاد القومي، ج1، ص 683 – 690″

        فأما عن النقطة الأولى، فيجب أن نذكر أن السير هنزى مكماهون لم يكن يحاول أن يحدد بدقة الحدود الشرقية للأرض التى يراد اخلاجها من منطقة الاستقلال العربى.

        ومن الواضح أنه استعمل عبارة يحدد بها على وجه عام رقعة من الارض واقعة على ساحل البحر الابيض المتوسط قد يقع بعضها خارج ” ولايات دمشق وحمص وحماة وحلب ” وقد يقع بعضها داخلها، ولكنها جميعها تقع غربا، أو الى الغرب من هذه المناطق.

        وأما عن النقطة الثانية، فان رئيس القضاة لا يشعر ان من الممكن استنتاج شىء من كون السير هنرى مكماهون لم يذكر عدم اتصال المنطقة العربية بالبحر الابيض المتوسط، لأنه اذا كانت المنطقة التى حددها باعتبارها خارجة من دائرة الاستقلال العربى، تمنع اتصال البلاد العربية بالبحر فانه لا ضرورة لذكر ذلك والنص عليه.

        وقد أخذ رئيس القضاة علما بالملاحظة المبينة على أن السير هنرى مكماهون في كتابه المؤرخ في 14 ديسمبر 1915 اقتصر على الاشارة الى ما يحتمل من اخراخ “ولايتى بيروت وحلب” من منطقة الاستقلال العربى، ولم ترد أية اشارة الى سنجق القدس أو غيره من المناطق. ولكنه يبدو من الجلى أن السير هنرى حين أشار الى هاتين الولايتين انما كان يرد على نقط أثارها الشريف حسين في كتابه المؤرخ في 5 نوفمبر 1915، فلا يبدو أن من الممكن استخلاص أية نتيجة خاصة من هذا الأمر.

        وهذا ينقلنا الى نقطة أثارها أحد مندوبى العرب، وهى انه أذا اعتبرنا الأهمية التى كان يعلقها الشريف حسين في خلال المكاتبات كلها على ولايتى حلب وبيروت وولاية العراق، فان مما لا شك فيه انه كان خليقا أن يشير بعبارات أقوى الى فلسطين أو سنجق القدس – لو ظن أنها مخرجة من منطقة الاستقلال العربى. وقد يكون هذا صحيحا، ولكن من المحقق أن العكس أيضا، يمكن الذهاب اليه، وهو أن الشريف فهم، وقبل الواقع، وهو أن فلسطين بحكم مركزها الخاص كبلاد تهم العالم أجمع ستعامل معاملة خاصة.

        وهذه الاعتبارات بعينها تنطبق علىأهمية أمر آخر، وذلك ان الشريف حسين فى كتابه المؤرخ في أول يناير 1916 أشار الى “الجهات الشمالية وسواحلها” ومن الممكن في هذه الحالة أيضا أن نستنتج أنه قبل أن تكون فلسطين خارجة عن دائرة الأستقلال العربى. وعلى كل حال فان كلمتى “الجهات الشمالية” أو “السواحل الشمالية” يمكن أن يفهم منها من يقرؤها في كتاب وارد من الحجاز ان المراد بها ساحل البحر الأبيض المتوسط كله.

        إن ما أسلفنا القول عليه فيما يتعلق بالتحفظى “الخاص” انما سقناه لنبين ان كل نقد يمكن أن يقابله تعليل معقول لما كان السير هنرى مكماهـون يفكر فيه ويقصد اليه على أن رئيس القضاة لا يريد أن يقول ان العبارة الواردة في كتاب السير هنرى مكماهون المؤرخ في 24 أكتوبر 1915 بناء على تعليمات حكومة جلالته واضحة أو حسنة الأداء دقيقة ، أو أن أية اشارة أخرى من الجانبين – كانت واضحة أو حسنة الأداء، أو ان حكومة جلالتة تعتمد على مثل هذه العبارات في عرض قضيتها.

        إن خير تفسير تستطيع حكومة جلالته أن تعرضه لعبارة ” أقاليم دمشق الخ”

بيان رئيس القضاة البريطانى بشأن البيانات التي ألقاها أعضاء اللجنة العربية
ملف وثائق فلسطين من عام 637 إلى عام 1949، وزارة الارشاد القومي، ج 1، ص 683 – 690″

في كتاب 24 أكتوبر 1915 هو أن هذه العبارة مقتبسة من عبارة الفاروقى ومستعملة بنفس المعنى العام الذى كان هو يرمى اليه، أى سورية الداخلية الجنوبية الى خليج العقبة.

        ومع ان حكومة جلالته ترى ان التحفظ الخاص كان ينبغى أن يكون كافيا لاستثناء فلسطين، فانها ترى ان التحفظ العام أهم.

        ومن رأى حكومة جلالته ان عبارة التحفظ العام واضحة تمام الوضوح فهى تقصر الدائرة التى ينطبق عليها تعهد السير هنرى مكماهون على:

        “… الأقاليم التى تضمها تلك الحدود حيث بريطانيا العظمى مطلقة التصرف بدون أن تمس مصالح حليفتها فرنسا”.

        وبعبارة أخرى لا يمتد التعهد الى أى جزء ليست بريطانيا حرة في التصرف في أمره مراعاة لمصالح فرنسا في الوقت الذى أرسل فيه الكتاب، أى في 24 أكتوبر 1915.

        ويجب أن يكون واضحا أيضا، مادام الأعضاء العرب قد أثاروا هذه النقطة انه من رأى رئيس القضاة ان أى تطور حصل فيما بعد وأدى الى تعديل المنطقة التى كانت بريطانيا العظمى حرة في التصرف فيها، بدون مساس بمصالح فرنسا، لا يؤثر في المنطقة التى ينطبق عليها تعهد 24 أكتوبر 1915 ولا يزال ينطبق عليها منذ ذلك الحين.

        واذا كان هناك أمر ثابت في هذه المسألة فذاك ان بريطانيا العظمى لم تكن في أكتوبر 1915 حرة في التصرف في فلسطين مراعاة للمصالح الفرنسية. وقد يكون صحيحا ان حكومة جلالته، بتأثير اللورد كتشنر وسواه كانت من قبل نشوب الحرب وبعدها ، راغبة في قصر المطالب الفرنسية على الساحل الشرقى للبحر الأبيض المتوسط اذا استطاعت أن تجد وسيلة مشروع الى ذلك. ولكن هناك فرقا عظيما بين الرغبة في أمر وبين تحقيقه. وفي الوسع أن نقرر انه في الوقت الذى تبودلت فيه المكاتبات كانت فرنسا تطالب بالساحل كله، جنوبا الى الحدود المصرية، وشرقا الى دمشق وان هذه المطالب المتطرفة لم تعدل في ربيع سنة 1916 بفضل المباحثات التى انتهت باتفاق “سيكس بيكو”.

        وكما ذكر من قبل لابد أن يكون الشريف حسين قد أدرك ان فرنسا يرجح أن تطالب بفلسطين ، حتى وان كان لا يعلم ان هذه المطالب حاصلة بالفعل، ونظرا الى الظروف والى اتساع المصالح البريطانية والدينية في فلسطين كان ينبغى أن يفهم هو، أو أى قارئ لكتاب السير هنرى مكماهون ان فلسطين خارجة من تعهد مكماهون، أو على الأقل ليس من الواضح انها داخلة فيه وان منطقة الاستقلال العربى تشملها.

        وثم نقطة أخرى يجب أن نتناولها فيما يتعلق بهذه المكاتبات، وفي الفقرة الثانية من كتاب الشريف حسين المؤرخ في 5 نوفمبر 1915 وفي الفقرة الرابعة من رد السير هنرى مكماهون في 14 ديسمبر 1915 ذكر الفريقان بوضوح ان هناك تفصيلات عديدة مهمة. خاصة بالمنطقة ارجئت تسويتها الى ما بعد.

 بيان رئيس القضاة البريطاني بشأن البيانات التى ألقاها أعضاء اللجنة العرب
ملف وثائق فلسطين من عام 637 إلى عام 1949، وزارة الارشاد القومي،ج 1، ص 683 – 690″

        وفي الكتاب المؤرخ فى أول يناير 1916 قبل الشريف حسين أن يرجئ النظر في مسألة احتلال فرنسا “لبيروت وسواحلها”. ومهما يكن المراد بهذا اللفظ: “ومن الممكن أن يقال ان سواحل بيروت تمتد الى الحدود المصرية” – فان من الجلى انه يخرج سواحل فلسطين الى آخر حدود ولاية بيروت جنوبا، أى الى نقطة تقع شمال يافا. وهذا في ذاته يعد بمثابة قبول وقتى لتحفظ خاص بنصف فلسطين تقريبا.

        وقد أشير من قبل الى اتفاق “سيكس بيكو” المعقود في مايو 1916 وكذلك أشير الى ان مطالب فرنسا في بداية الحرب كانت تشمل فلسطين كلها كما تشمل دمشق وحلب. وهنا يجب أن يذكر ان السير مارك سيكس كان صادق العطف على القضية العربية، ومن الجلى انه كان يفاوض في عقد هذا الاتفاق وهو معتقد ان التحفظ الوارد على تعهد 24 أكتوبر 1915 يسوغ عقد الاتفاق الذى انتهى اليه. وحكومة جلالته تشك في أنه كان على صواب.

        وفضلا عن ذلك فان السير مارك سيكس حصل على تساهل عظيم من المفاوضين الفرنسيين فيما يتعلق بسناجق حماة ودمشق وحلب، وهى سناجق كان لدى حكومة جلالته من الأسباب – نظرا لما كان الفاروقى قد قاله في تاريخ سابق – ما يحملها على الاعتقاد بانها حيوية للعرب. وقد كان من الصعب جدا الحصول من الحكومة الفرنسية على هذا التساهل، وكان الاعتقاد قويا في ذلك الوقت ان الاتفاق الذى عقد – على ما جاء في تقرير رسمى كتب يومئذ – “من شأنه أن يسوى الخلافات الأساسية بين العرب والفرنسيين فيما يتعلق بسوريا.”

        وقد اعتبرت فلسطين في هذه الاتفاق دولية، على أن يستشار شريف مكة ويتفق مع ممثليه على نوع الحكم الذى يقوم فيها. وهذه نقط كثيرا ما تهمل، ولكنها اذا روعيت وأدخلت في الحساب عند النظر في الموضوع كان من الصعب أن يقال ان الاتفاق كان بمثابة نكث للعهد مع الشريف حسين. يضاف الى ذلك ان حكومة جلالته لم تكن فى سنة 1915 في مركز يسمح لها بأن تعطى السيادة على فلسطين للعرب، فقد كان عليها أن تستشير حلفاءها وغيرهم من الأمم ذوات المصالح في فلسطين، كما هى مضطرة الآن ان تستشير عصبة الأمم.

        واتفاق “سيكس بيكو” يكسب الوعد المبذول للشريف حسين أهمية خاصة وهذا ما ينساه العرب. فقد كان مؤداه ان بريطانيا العظمى مستعدة أن تعترف باستقلال العرب وتؤيده ومتى سمحت الأحوال وأسعفت الظروف فان بريطانيا العظمى تنصح العرب وتساعدهم في اقامة ما يعد أصلح أنواع الحكم في هذه الأراضى المختلفة.

        وترى حكومة جلالته ان بريطانيا العظمى قد انجزت وعودها على الرغم من الصعوبات العظيمة. وقد يكون هناك محل للأسف، لانها لم تنجزها على وجه أوفى، ولكن شريف مكة لا يمكن أن يكون قد اعتقد انها أعطته – وهى لم تعطه في الواقع قط – وعدا من شأنه أن يورطها في حرب مع حليف لها لتحقق للعرب آمالا في أية رقعة من الأرض التى طلبها الشريف.

        وتتكرر الشكوى مرارا من تصريح بلفور، ولكن لا يمكن أن يقال ان المستر بلفور كان خليقا أن يصدر هذا التصريح لو انه يظن أن فلسطين داخلة في الوعد

بيان رئيس القضاة البريطانى بشأن البيانات التى ألقاها أعضاء اللجنة العرب
ملف وثائق فلسطين من عام 637 إلى عام 1949، وزارة الارشاد القومي، ج 1، ص 683 – 690″

الذى قطعه السير هنرى مكماهون للشريف في كتابه المؤرخ في 24 أكتوبر 1915، علي انه ينبغى أن يلاحظ أن ما يشكو منه العرب يتوقف الى حد كبير على التفسير الذى يؤخد به للتصريح، والمؤدى الذى يفهم منه. وليس مما يدخل في نطاق هذا البحث ان نبدى رأيا في وجهة النظر الصهيونية في الموضوع، ولكن يجب أن نذكر ان التصريح يكفل صراحة الحقوق المدنية والدينية للعرب. وهذا قيد عظيم الأهمية ومن حقه أن يكون له تأثير بالغ في السياسة.

        والمرجو أن يكون في هذه الايضاحات ما يقنع أعضاء اللجنة من العرب بان السير هنرى مكماهون لم يكن يقصد قط أن تكون فلسطين داخلة في نطاق الاستقلال العربى، ولم يكن ثم ما يبعثه على الظن بان مقاصده ليست واضحة وضوحا تاما للشريف حسين، على انه سواء تحقق هذا الرجاء أم لم يتحقق فان حكومة جلالته لا يسعها الا أن تنفى بقوة كل قول ينقض العهد من جانبها أو جانب أسلافها.

        ويود رئيس القضاة، في الختام، أن يذكر اللجنة بان المهم الآن هو الحالة الموجودة فعلا، وقد أعطيت بريطانيا العظمى الانتداب بموافقة حوالى اثنتين وخمسين أمة من جميع ارجاء العالم، ولا سبيل الى اغفال هذه الحقيقة التى لا تستطيع حكومة جلالته تغييرها وحدها والتى تحملها تبعات لابد من القيام بها. أفلا يستطيع الجميع ممن يعنيهم الأمر أن يعترفوا بحقيقة هذا الأمر الواقع، وأن يتعاونوا على ايجاد تسوية عادلة في هذه الظروف؟

Scroll to Top