رسالة الرئيس بورقيبة الى الرئيس عبد الناصر حول قضية فلسطين
“الوثائق الفلسطينية العربية لعام 1965، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، مج 1، ص 185 – 188”
رسالة الرئيس بورقيبة الى الرئيس عبد الناصر حول قضية فلسطين
(العمل – التونسية – 30/4/1965)
الى الرئيس جمال عبد الناصر، رئيس الجمهورية العربية المتحدة.
اما بعد فان واجب الاخوة وواجب العروبة يمليان علي ان اخاطبكم في قضية عزيزة علينا جميعا، كثيرا ما تبادلنا الرأي في شأنها، وكان يخيل اليّ انا متفقان بخصوص النقط الجوهرية منها.
وان ما توطد بيننا من روابط الاخوة والتفاهم اثناء مقابلاتنا العديدة وبخاصة خلال زيارتي الأخيرة إلى الجمهورية العربية المتحدة ليجعلني اعتقد ان الخلافات مهما تكن يمكن التغلب عليها بالمنطق السليم والنية الطاهرة والعزيمة الصادقة.
وان ما لقيته من شعب مصر ومن شعب المشرق العربي عامة من اكرام وتبجيل لمرتسم في نفسي ولن يمحى اثره مهما تقلبت الاحوال. وأن ذلك لدين ينضاف الى واجبي كعربي فيملي عليّ ان أفعل كل ما في وسعي لاجنب الشعوب العربية مغبة الانقسام والتناحر في ظرف هم فيه احوج ما يكونون الى التكاتف والتضامن من اجل العمل الايجابي.
ولقد زرت اللاجئين في المملكة الاردنية، ووقفت بنفسي على ما يقاسونه من حرمان وخصاصة ومس في الكرامة، والعيان اقوى من الف رواية. وكان في مقدوري ان اقول لهم ما تعودوه من كلام معسول يثير حماستهم ويكسبني اعجابهم وتأييدهم، ولكني شعرت بان الواجب الذي لا يمكننا الاخلال به او التفصي منه هو مصارحتهم بما يعيد اليهم الشعور بأن مصيرهم بأيديهم وانهم مسؤولون عن صنع هذا المصير بما يقيمونه من خطط ويرسمونه من اهداف وياتونه من اعمال، بدل التجمد في موقف المطالبة العاطفية التي تتغذى بالآمال ولا تسفر عن فعل.
ولم استغرب ما ذهبت اليه بعض الصحف في بعض الاقطار العربية من استنكار وثلب، بقدر ما استغربت ما بدر من بعض الاوساط المسؤولة في القاهرة بخصوص الموقف الذي وقفته والتصريحات التي فهت بها، والحال اننا متفقان في الجوهر كما تبين لي ذلك من خلال محادثاتنا الكثيرة عن قضية فلسطين.
وانتم اعلم الناس بأن المشكل لا يتعلق بالهدف الذي لا يمكن ان يتطرق اليه خلاف او نزاع هو تمكين اخواننا الفلسطينيين من استرجاع وطنهم المغصوب، وانما الذي اشكل فهمه علما بعض الاوساط او أسيء فهمه عمدا في بعض الدوائر انما يتعلق بكيفية الوصول الى ذلك الهدف.
رسالة الرئيس بورقيبة الى الرئيس عبد الناصر حول قضية فلسطين
“الوثائق الفلسطينية العربية لعام 1965، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، مج 1، ص 185 – 188”
فخلطوا عمدا أو غفلة بين الغاية والوسيلة وحملوا الاجتهاد في استنباط الوسائل محمل التخلي عن الهدف أو التنكر له.
ولئن كان ما قلته يغاير ما ألفه الكثيرون من جعجعة لفظية لا طائل من ورائها، فان المسؤلين العرب عامة والمسؤولين المصريين بوجه اخص على علم من حقائق الامور. واعتقادي ان الشخصيات الرسمية التي تسرعت الى ابداء الاستنكار انما فعلت ذلك بغير مرضاة الجمهورية العربية المتحدة وذلك لاسباب داخلية لا تغرب عن احد.
لذا اعتبر من المفيد ان اخاطبكم انتم مباشرة. وسأتوخى نفس الصراحة التي عهدتموها فيّ سواء في مباحثاتنا الخاصة او في الخطب التي صدعت بها على رؤوس الملأ في شتى المناسبات.
ونحن جميعا متفقون على انه من المستحيل في الظروف الراهنة ان تشن الدول العربية حرباً على اسرائيل لتحرير فلسطين وارجاعها الى اهلها واصحابها. واذكركم في هذا الصدد بمداولات اجتماعي القاهرة والاسكندرية. ولست اعتقد ان في تأكيد ذلك افشاء لسر ما.
ويتعذر على الدول العربية القيام بأي عملية هجومية في الوقت الحاضر لسببين: اولهما أنها غير متأهبة لمواجهة الحرب، ولا قابلة لمبدأ تسلل عصابات المقاومين من ابناء فلسطين، والثاني أن الوضع الدولي يحول ايضا دون ذلك لاجماع الشقين الغربي والشرقي في الامم المتحدة على المحافظة على السلم واستعدادهما لردع اي محاولة تهدف الى تغيير الوضع الحالي بالعنف في هذه المنطقة.
وليس هناك في الوقت الحاضر ما يحمل على الامل بأن الحالة سوف تتغير في امد معقول يمكن التكهن به، بينما تزداد تكاليف التسلح وطأة على الدول العربية فتحد من قدرتها على النمو واكتساب الاسباب الحقيقية للقوة والمناعة.
وكثيرا ما تناولت هذا الموضوع مع عدد من المسؤولين في المشرق العربي، فكانوا دوما يجيبون بأن اكبر حسرة في نفوسهم اصرار العرب على التمسك بمواقف سلبية تجاه الحلول التي عرضتها عليهم منظمة الامم المتحدة.
ولقد قلتم لي بلسانكم خلال محادثة لنا عن ذلك انكم أثرتم موجة من الغضب لما صرحتم اثناء مؤتمر باندونج بأن ما عرضته الامم المتحدة سنة 1948 يمكن اعتباره حلا مرضيا فأجبتكم بأني مستعد لاتخاذ مواقف جريئة في هذا الصدد واضفت مازحا:
(وآمل ان لا تهاجمني عندئذ ابواق اذاعة القاهرة وصوت العرب).
وان الخطة التي اقترحتها في اريحة والقدس ولبنان، ثم شرحتها ووضعتها في تصريحات متوالية، لا تختلف في الجوهر عن الموقف الذي أعلنتم عنه سنة 1955. وقد تقدمت بهذه
رسالة الرئيس بورقيبة الى الرئيس عبد الناصر حول قضية فلسطين
“الوثائق الفلسطينية العربية لعام 1965، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، مج 1، ص 185 – 188”
الخطة نفسها في الخطاب الذي القيته في الاجتماع الأول لرؤساء الدول العربية بالقاهرة في جانفي من سنة 1964.
وهي خطة لا تهدف الى الاستكانة وقبول انصاف الحلول كما يظن البعض، بل هي تهدف الى تحريك القضية بعد ان تجمدت وتعفنت وكاد الرأي العام العالمي أن ينساها واجمع اصدقاؤنا من العالم الثالث من الدول غير المنحازة على اعتبارها من القضايا المحفوظة.
فمن أوكد واجباتنا انتشال القضية من هذا التدهور الذي وصلت اليه، وذلك بإرجاعها الى الحيز الذي تصبح فيه من شواغل الرأي العام العالمي.
ومن أوكد واجباتنا ايضا أن نقرأ للخطة السياسية حسابها فلا نعول على القوة وحدها لانها كما اسلفنا لا تفضي الى نتيجة ايجابية فلا بد اذن من كسب الأنصار وتهيئة الرأي العام الدولي الى مساندتنا بصورة من الصور. لذلك اقترحت ان نعود الى قبول مقررات الأمم المتحدة في شأن ارجاع اللاجئين الى ديارهم وتخلي اسرائيل عن جانب هام من فلسطين المحتلة.
وكنت اتوقع – والأيام اقامت الدليل على ذلك – ان اسرائيل لن تقبل الخضوع لمقررات الأمم المتحدة وانها بذلك، ومن حيث لا تريد، سوف تعزز موقفنا، اذ تظهر الدول العربية في نضالها من اجل فلسطين في موقف المدافع عن قرارات الأمم المتحدة المتعلق بمبادئها.
وكنت واثقا – والأحداث قد أيدت ذلك – ان الدول الكبرى ستستنكر رفض اسرائيل الانصياع لمقررات الأمم المتحدة فيكسب العرب من ذلك بصورة غير مباشرة وتتزعزع الأركان التي يعتمد عليها الاستعمار الصهيوني نتيجة للتفرقة بين اسرائيل ومناصريها.
ولا يخلو الحال من احد امرين: اما ان تقبل اسرائيل في النهاية مقررات المنظمة الدولية – وهو الابعد – فتسمح برجوع اللاجئين وتتنازل عن قسم من الأرض المحتلة فتتغير بذلك المعطيات لصالح العرب وتظهر امكانيات جديدة من شأنها ان تؤدي الى الحل النهائي.
واما – وهو الأقرب – ان تصر اسرائيل على الرفض. فيكون موقف العرب هو الأقوى حتى في صورة نشوب حرب بين الطرفين.
ومهما يكن من امر فان المهم هو الخروج بالقضية من حالة الموات ودفعها الى الأمام واذ ذاك لا بد لها من التطور السريع نحو الوضع الذي يمكن حتما من بلوغ الحل النهائي، ما دامت قد دخلت في تيار الأحداث الحية واندفعت بقوة اندفاعها.
فالخطة التي صدعت بها تهدف الى مضايقة اسرائيل وقلب الآية عليها وكسب عطف الرأي العام الدولي على قضيتنا.
رسالة الرئيس بورقيبة الى الرئيس عبد الناصر حول قضية فلسطين
“الوثائق الفلسطينية العربية لعام 1965، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، مج 1، ص 185 – 188”
وهي لا تختلف عن جوهرها عن الموقف الذي عبرتم عنه باقتضاب في تصريحاتكم الاخيرة الى مجلة (ريالتي) ووكالة (اوبرا موندي) اذ قلتم ما معناه ان العرب راضون بما طالب به الأفارقة والاسيويون سنة 1955 من رجوع الى مقررات الأمم المتحدة في خصوص قضية فلسطين.
فأين الخلاف بيننا اذن؟ ألسنا متفقين من صلب القضية؟ ألسنا على رأي واحد في خصوص عدم نجاعة الحرب في الظروف الراهنة – مع تأكيد تضامن تونس مع شقيقاتها في حالة نشوب حرب مع اسرائيل، وذلك طبقا لما تعهدنا به في نطاق الدفاع المشترك وضمن هيئة القيادة العربية الموحدة.
ألسنا نرى معا ضرورة الاخذ بسياسة المراحل في استرجاع الوطن السليب؟ وذلك على غرار ما فعلته كافة الشعوب العربية في استرجاع سيادتها، لا أستثني منها شعبا واحدا، لا مشرقا ولا مغربا.
واني لأتذكر اني قلت في خطابي الى الملوك والرؤساء مجتمعين بالقاهرة ان الكفاح يقتضي احيانا من المسؤولين ان يغامروا بسمعتهم وماضيهم، فيجابهوا غضب الجماهير في سبيل حلول جريئة لا تظهر نجاعتها للعيان الا بعد مدة.
ولقد كرست حياتي كلها للكفاح من اجل الحرية والعدالة لا بالنسبة الى تونس فقط بل في صالح الأمة العربية جمعاء. واني مستعد للمغامرة من جديد في سبيلها رغم الحملات المستعرة والتهجمات السخيفة التي تهدف الى تضليل الرأي العام العربي باستعمال لغة الشتم والندب بدل التروي واعمال العقل واجراء الحوار النزيه.
واني لمستعد لذلك، وان أدى الأمر الى القطيعة مع بعض الاشقاء الذين يعز علينا التخالف معهم، ولكن التخلي عن الحق أشق على نفوسنا وأعصم.
ولقد عرفت تونس محنة القطيعة من قبل، وواجهتها بصبر وجلد. ولم يغير ذلك من وفائها لعروبتها ولم ينل من إيمانها بنفسها ولم يزعزع ثقتها بمصيرها.
وان كانت القضية – وهو ما نأمل – ناشئة عن مجرد سوء التفاهم ولا تشوبها النوايا، فإني مستعد لعقد اجتماع معكم في التاريخ والمكان اللذين يمكن الاتفاق عليهما قصد توضيح الموقف وحماية الوحدة العربية من التصدع وتعزيزا للطاقة العربية على بناء الكرامة والحرية والمناعة وفقنا الله جميعا الى ما فيه الخير والرشد.
وتقبلوا تحياتي الخالصة مشفوعة بعبارات التقدير الاخوي.
| الحبيب بورقيبة |