التقرير السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين

التقرير السياسي الأساسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
المصدر: “الوثائق الفلسطينية العربية لعام 1968، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، مج 4، ص 653 – 671”

التقرير السياسي الأساسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.

آب (أغسطس) 1968

 

(كراس رسمي، آب – أغسطس – 1968)

مقـدمـة

         ترتبط المسألة الوطنية الفلسطينية على امتداد التاريخ – القديم والوسيط والحديث – بالأوضاع المحيطة بفلسطين، وبالصراعات الدولية. ونظرة تاريخية علمية على خارطة الشرق الأوسط تكشف العلاقة الجدلية القائمة، والدائمة، بين تطورات الوضع الفلسطيني وبين تطورات الوضع في الشرق الأوسط عامة، والمنطقة المحيطة بفلسطين خاصة. وجملة هذه التطورات هي التي قررت على امتداد التاريخ، ولا زالت تقرر مصير فلسطين ومصير شعبها المكافح.

         وتاريخ فلسطين الحديث، يثبت بالمطلق صحة هذه الحقيقة التاريخية. ففي ظل هزالة النظام العثماني “الإقطاعي الديني” أمام الأنظمة الرأسمالية الأوروبية، أخذت الإمبريالية تتطلع إلى وراثة الدولة العثمانية، وتقاسم تركة “الرجل الشرقي المريض”. وفي ذات الوقت أخذت الصهيونية، التي تقودها الرأسمالية اليهودية، تتطلع إلى الاستيلاء على فلسطين تحت ستار ديني رجعي، لتتمكن من تكوين حركة صهيونية عنصرية، تحتوي التجمعات اليهودية في الكثير من بلدان العالم. وبحكم المصالح المتبادلة بين الاستعمار والامبريالية من جهة وبين الصهيونية من جهة أخرى، وقفت هذه القوى المضادة لحركة التحرر الوطني الفلسطيني والعربي في جهة واحدة لتقاسم تركة الإمبراطورية العثمانية الإقطاعية التي أخذت تنهار على أيدي الرأسمالية الصناعية الأوروبية، والرأسمالية اليهودية.

         وفي أعقاب الحرب العالمية الأولى ألحقت الدول الامبريالية المشرق العربي بإمبراطورياتها الاستعمارية، وتقدمت بريطانية بوعد “بلفور سنة 1917” الذي يمنح الصهيونية، حقا قوميا لليهود في فلسطين “ولم يكن الموقف البريطاني بالصدفة، أو نتيجة غلطة ارتكبها وزير خارجيتها، بل نتيجة موضوعية للسياسة الاستعمارية في منطقة المشرق العربي، وذلك لزرع قاعدة بشرية مسلحة للاستعمار، للوقوف في وجه حركة التحرر الوطني العربية التي يهدد انتصارها مجموع المصالح والقواعد الاستعمارية في هذه المنطقة الحيوية من العالم. كما جاء هذا الموقف البريطاني تلبية للمطامع الاستيطانية الصهيونية التي تلتقي مع الاستعمار والامبريالية في جهة واحدة معادية لحركة التحرر الوطني الفلسطينية والعربية.

         وقد وجدت الامبريالية – والصهيونية – في الأنظمة العربية الاقطاعية، التي قامت على الأرض الفلسطينية والعربية، مناخا صالحا لتنفيذ المخططات الشريرة الموضوعة لفلسطين خاصة والبلاد العربية عامة. فالأنظمة العربية الإقطاعية – البورجوازية الكبيرة، ارتمت منذ الولادة في أحضان الاستعمار والإمبريالية وانتظمت، في صف الثورة المضادة، في جبهة واحدة عريضة مع الامبريالية ضد حركة التحرر الوطني الفلسطينية والعربية. فالمصالح المتبادلة بين هذه الأنظمة والاستعمار تقود إلى التحالف المتبادل، حيث يقوم الاستعمار بحمايتها وحماية مصالحها الطبقية المستغلة (بكسر الغين) بالإضافة إلى حماية مصالحه الامبريالية الاستغلالية، كما تقوم الأنظمة بدورها في حراسة وحماية المصالح الاستعمارية حيث يرتبط وجود وبقاء كل من الطرفين بوجود وبقاء كل شركاء الثورة المضادة.

         ونتيجة لارتماء الأنظمة العربية الإقطاعية

التقرير السياسي الأساسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
المصدر: “الوثائق الفلسطينية العربية لعام 1968، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، مج 4، ص 653 – 671”

البورجوازية في أحضان الاستعمار، فقد بقيت مكتوفة الأيدي تجاه المطامع الصهيونية ووعود الامبريالية لها “بتهويد” فلسطين، واكتفت هذه الأنظمة بمناشدة “الحليفة” بريطانية بأن تتفهم حقوق شعب فلسطين!

         وطبيعي ان تتخذ الأنظمة العربية الرجعية مثل هذه المواقف المتخاذلة تجاه احتمالات “تهويد” فلسطين، لأنها بحكم تكوينها الاقطاعي – البورجوازي الطفيلي لا تستطيع مجابهة مخططات الاستعمار والصهيونية بالقوة المسلحة والثورات الوطنية الشعبية، فالأنظمة الرجعية في كل مكان وزمان – وهي كذلك في بلادنا – تخشى الجماهير أكثر مما تخشى الاستعمار. ومجابهة مخططات الاستعمار والصهيونية تتطلب تسليح الشعب وتنظيمه، وهذا ما ترفضه الأنظمة الرجعية المعادية للتحرر الوطني في بلادنا وفي جميع البلدان المتخلفة في آسية وأفريقية واميركة اللاتينية. كما ان هذه الأنظمة، بحكم تكوينها الاقطاعي البورجوازي، ترتبط مصالحها وبقاؤها بمصالح وبقاء الاستعمار القديم والجديد في البلاد العربية.

         ومن هنا، ومنذ بداية التاريخ الحديث لفلسطين، بات واضحا ان مصير فلسطين تقرره حركة الصراع الوطني، الذي هو في حقيقته المادية الملموسة صراع طبقي بين معسكر قوى التحرر الوطني على الأرض الفلسطينية والعربية وبين معسكر أعداء التحرر الوطني من استعمار وأنظمة عربية رجعية متحالفة معه، والصهيونية العالمية.

         ونظرا لتحكم الطبقات الاقطاعية والبورجوازية الكومبرادورية بأجهزة الدولة البوليسية القمعية، ونظرا لتحكم ذات الإطارات الطبقية حتى نكبة 48 بقيادة الحركة الوطنية، فقد بات مصير فلسطين معروفا على يد هذه الطبقات والقيادات المتحالفة مع الاستعمار والامبريالية. وبرغم أنف كل الشعارات العاطفية الباكية على فلسطين والتي أطلقتها هذه الطبقات الحاكمة فقد مارست، في حقيقة الموقف، موقفا متهادنا مع الاستعمار ومتخاذلا تجاه مخططاته العاملة على “تهويد” فلسطين وبدلا من الرد على الاستعمار بفتح جبهة صدام وطنية عريضة معه – وهذا ليس من طبيعتها الطبقية الرجعية – فقد مارست، على امتداد تاريخ حركة التحرر الوطني الفلسطينية والعربية، سياسة قمع ومحاضرة لقوى الثورة الوطنية، الطبقية والسياسية، وفي ذات الوقت مواصلة سياسة التحالف مع الاستعمار، وحماية مصالح ومواقع الامبريالية في عموم البلاد العربية، وفي مقدمتها عمليات النهب البترولية.

         واذا وضعنا تاريخ فلسطين، منذ البداية حتى المرحلة الراهنة التي تجتازها القضية الفلسطينية، موضع المحاكمة الملموسة والتحليل الملموس لاتضح، بما لا يقبل الجدل، ان تاريخ ومصير فلسطين تقرره جملة الأوضاع المحيطة بفلسطين والسياسات الصراعات الدولية الامبريالية. وتاريخ فلسطين الحديث دليل صارخ على صحة هذه المسألة، وقد جاءت هزيمة سنة 1948 على يد القيادات الفلسطينية الاقطاعية الدينية “الحاج أمين الحسيني”، والقيادات البورجوازية الكبيرة “أحزاب البورجوازية كحزب الاستقلال وحزب الدفاع… الخ”، وعلى يد الأنظمة الاقطاعية العربية متمثلة بالملوك والرؤساء العرب، لتعطي المثل الملموس على العلاقة الجدلية القائمة بين الوضع الفلسطيني والعربي والدولي. وما نكبة فلسطين وقيام “دولة إسرائيل” الا نتيجة ملموسة أخرى على هذه العلاقة الجدلية الفلسطينية – العربية.

  •  

         ان هذه المقدمة التحليلية المكثفة كان لا بد منها في هذه الظروف المصيرية التي تجتازها القضية الفلسطينية لابراز طبيعة العلاقة الجدلية اليومية والحتمية بين ما يجري في البلاد العربية ومصير القضية الفلسطينية. فكل ما جرى ويجري في البلاد العربية على امتداد التاريخ الفلسطيني يمس، بهذا الشكل أو ذاك، وضع ومصير فلسطين والقضية الفلسطينية، وأي محاولة للقفز عن هذه الموضوعية الجدلية هي محاولة مشبوهة أما رجعية أو استعمارية أو صهيونية.

         وفي هذه المرحلة الراهنة، حيث تجتاز المسألة الوطنية الفلسطينية أخطر وأشق مراحلها، وتحديدا منذ هزيمة حزيران (يونيو) 67، ارتفعت ولا زالت ترتفع بعض الأصوات الفلسطينية والعربية اليمينية والرجعية، مطالبة بعزل حركة المقاومة الفلسطينية عن كل الأحداث والتطورات في المنطقة العربية تحت شعار “عدم التدخل في الأوضاع العربية” الذي

التقرير السياسي الأساسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
المصدر: “الوثائق الفلسطينية العربية لعام 1968، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، مج 4، ص 653 – 671”

تحول، في التحليل الأخير، على يد حركة المقاومة الفلسطينية إلى “عدم التدخل بالأوضاع الفلسطينية” لان ما جرى ويجري على الأرض العربية مرتبط جدليا بالمسألة الفلسطينية، ودروس ثورة سنة 1936 الفلسطينية ونكبة سنه 48 وهزيمة حزيران (يونيو) سنة 1967 لا زالت طرية وماثلة في الأذهان. وبعد حزيران (يونيو) سنة 67 لم تعزل “الأوضاع العربية” نفسها عن المسألة الفلسطينية، وكل ما يجري داخل هذه الأقطار يمس يوميا قضية فلسطين.

         ان اليميني الرجعي الفلسطيني، الذي يحتضنه اليميني الرجعي العربي، يزرع بدعوته إلى الفصل بين المسألة الفلسطينية والأوضاع العربية بذور هزيمة جديدة سياسية أو عسكرية، تنتهي بتصفية القضية الفلسطينية بالتسوية السياسية المقترحة وفق قرار مجلس الأمن الصادر في “22 تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1967”. ان اليميني الرجعي الفلسطيني بدعوته هذه، يحاول القفز عن الحقائق التاريخية الملموسة وطمس التناقض القائم بين الأوضاع العربية الراهنة المسؤولة عن نكبة 48، وهزيمة 67، وبين مسألة تحرير فلسطين، وبالمقابل تحتضن الأنظمة الرجعية العربية والأنظمة المتخاذلة تجاه هجمة حزيران (يونيو) الامبريالية الاستعمارية الصهيونية هذه الدعوات اليمينية المشبوهة لإبعاد حركة التحرر الوطني في بلدانها عن دروس ونتائج نكبة 48، وهزيمة 67، المسؤولة عنها هذه الأنظمة القائمة. وبذات الوقت تواصل هذه الأنظمة علاقتها وتعاطيها بالقضية الفلسطينية، والذي يشكل الان قرار مجلس الأمن التصفوي محور هذه العلاقات.

         إن ضرورة هذه المقدمة التحليلية لتأكيد قانون أساسي من قوانين المسألة الوطنية الفلسطينية، وهو قانون “العلاقات الجدلية اليومية بين الأوضاع العربية والقضية الفلسطينية”، وكل ما جرى ويجري في المنطقة العربية يمس القضية الفلسطينية، وعلى “حركة المقاومة الفلسطينية ان تحاكم الأوضاع العربية حسب مواقفها الملموسة من القضية الوطنية الفلسطينية”، وإلا فقدت حركة المقاومة الفلسطينية هويتها الفلسطينية، وتحولت إلى “اضافة كمية” للأوضاع والأنظمة العربية القائمة والمسؤولة عن اجهاض ثورة 36، ونكبة 48، وهزيمة 67. وأية محاكمة للمسألة الوطنية الفلسطينية لا يمكن عزلها عن محاكمة ونقد الأوضاع العربية المسؤولة عن “المأزق التاريخي”الذي تقف أمامه القضية الفلسطينية بعد هزيمة حزيران (يونيو). والأنظمة العربية القائمة، وحركة التحرر الوطني الفلسطينية والعربية تقف أمام اختيارين اساسيين تجاه القضية الفلسطينية، وعلى كل منهما يتوقف مصير فلسطين، فإما “تصفية القضية” أو الأخذ ببرنامج حرب تحرير شعبية، وأي محاكمة لهذين الاختيارين ليست معزولة عن برنامج عمل الأنظمة العربية القائمة وحركة التحرر الوطني الفلسطينية والعربية، بل ان هذه البرامج المطروحة والتي تجد تعبيرها الملموس في الترجمات اليومية منذ هزيمة حزيران (يونيو) 67 حتى الان هي التي تقرر اختيار “التصفية” أو الاختيار الوطني المقابل. ومسألة الاختيار ليست مرهونة، بالإرادات الذاتية والنيات والشعارات العاطفية الديماغوجية، بل هي مرهونة ببرامج العمل اليومية الملموسة التي تأخذ بها وتمارسها الأنظمة العربية القائمة وحركة التحرر الوطني الفلسطينية والعربية. أما القفز عن الواقع الملموس والتغني بالشعارات الديماغوجية فهما عملية يمينية رجعية قذرة نتيجتها اليتيمة “هزيمة جديدة سياسية أو عسكرية تتوج بهزيمة سياسية”.

  •  

دروس هزيمة حزيران (يونيو) 1967

         لم تكن هزيمة حزيران (يونيو) هزيمة عسكرية فقط، بل كانت هزيمة لمجموع التكوين الطبقي والاقتصادي والعسكري والايديولوجي لحركة التحرر الوطني الفلسطينية والعربية (الرسمية والشعبية).

         ولم تكن الأنظمة العربية الإقطاعية البورجوازية هي المخاطبة بحرب وهزيمة حزيران (يونيو)، فقد حكمت هذه الأنظمة على نفسها بالإفلاس منذ نكبة سنة 1948 تحديدا، وهي المسؤولة عن نكبة 48 حيث قادت جيوشها إلى الهزيمة في ظل تحالفها مع الاستعمار والامبريالية. وكما أن هزيمة حزيران (يونيو) ليست هزيمة عسكرية فقط، فقد كانت نكبة 48 هزيمة للأنظمة الإقطاعية البورجوازية بكل ما تمثله من ممارسات طبقية وسياسية رجعية، تركت اقتصاد فلسطين واقتصاد البلاد العربية اقتصادا متخلفا ومرتبطا بعجلة السوق الرأسمالية العالمية وتحت رحمتها. كما ان هذه الأنظمة، بحكم تكوينها

التقرير السياسي الأساسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
المصدر: “الوثائق الفلسطينية العربية لعام 1968، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، مج 4، ص 653 – 671”

الإقطاعي – البورجوازي، فشلت في حل معضلات التحرر الوطني الفلسطيني والعربي بتحقيق الاستقلال الاقتصادي والسياسي عن السوق الرأسمالية العالمية وعن الاستعمار والامبريالية، وسرعان ما ارتمت في أحضان الاستعمار وتحالفت معه للمحافظة على امتيازاتها الطبقية الاستغلالية، وسيطرتها على قمة الهرم الاقتصادي والسياسي في بلدانها، تقف مع الاستعمار ضد حركة التحرر الوطني الفلسطينية والعربية لتمارس، على امتداد تاريخها الحديث، عمليات التطويق والتصفية والقمع لحركة التحرر الوطني الفلسطينية والعربية (على سبيل المثال ثورة سنة 1919 في مصر، سنة 1936 في فلسطين، سنة 1941 في العراق، قمع حركة الجماهير في فلسطين وباقي البلاد العربية بكافة أساليب العنف المسلح والسياسي الرجعي).

         ونتيجة لواقع هذه الأنظمة “الإقطاعي – البورجوازي” المتخلف، والضعيف والمتحالف مع الاستعمار والامبريالية، لم تتمكن هذه الأنظمة من بناء جيوش عصرية وطنية قادرة على حماية الوطن ومجابهة سياسات الاستعمار والصهيونية في فلسطين والبلاد العربية الأخرى.

         ومن هنا دخلت هذه الأنظمة حرب 48 بجيوش هزيلة، ومؤخرة أكثر رثاثة وهزالة، محاولة الحركة العسكرية والسياسية ضمن الحدود الجغرافية لمشروع تقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية.

         وقد جاءت النكبة وقيام “دولة إسرائيل” تتويجا ونتيجة للأوضاع الفلسطينية والعربية التي تحكمها أنظمة اقطاعية – بورجوازية متخلفة، ومتحالفة مع الاستعمار، لتكشف بوضوح عن ضرورات محاكمة النكبة لا بالنتائج، بل بالمقدمات الطبقية والاقتصادية والسياسية والعسكرية التي افرزت هذه النتائج لتكشف بوضوح ان “تصفية دولة إسرائيل”، و”تحرير فلسطين” رهن برفض الأوضاع الإقطاعية – البورجوازية الاستعمارية، وضرورات تصفية العوامل الأساسية للنكبة. وهذا ما طرحته دروس 48 على حركة التحرر الوطني الفلسطينية والعربية، وقد كان عبد الناصر محقا عندما خاطب رفاقه أثناء حصار الفالوجة: “ان الهزيمة لم تقرر في ميدان القتال، بل تقررت هناك في القاهرة “، و”ان تحرير القاهرة من النظام الفاروقي الإقطاعي – البورجوازي المتحالف مع الاستعمار والرجعية العربية يشكل الحركة المركزية في برنامج العمل الوطني لتحرير فلسطين”.

         ومن هنا أصبحت المسألة المركزية في برنامج حركة التحرر الوطني العربية والفلسطينية هي تصفية الأنظمة الإقطاعية – البورجوازية المسؤولة عن نكبة 48، أذ ان تصفية هذه الأنظمة تفتح أمام حركة التحرر الوطني الطريق لحل معضلات التحرر الوطني الفلسطينية والعربية، والتي تتطلب هدم الاقتصاد الإقطاعي – البورجوازي المتخلف والمرتبط بالسوق الرأسمالية العالمية، وبناء اقتصاد وطني عصري (بالتصنيع والإصلاح الزراعي) يقف على رجليه، مستقل في حركة تطوره عن السوق الرأسمالية العالمية ومنفصل عنها، وبمعزل عن بناء القاعدة الاقتصادية الصلبة المتحررة من ضغوط الرأسمالية العالمية والاستعمار لا يمكن بناء جيوش نظامية وشعبية تخوض معركة طويلة النفس مع معسكر الثورة المضادة على أرض فلسطين والأرض العربية إسرائيل + الاستعمار + الأنظمة الرجعية العربية المتحالفة معه).

         لقد دخلت حركة التحرر الوطني الفلسطينية والعربية منذ نكبة 48 في طور جديد، طبقياً، وأيديولوجياً وسياسياً، ففي ظل افلاس القيادات والأنظمة الإقطاعية – البورجوازية – التي انحازت كليا بعد النكبة إلى صف الثورة المضادة، أخذت حركة الصراع الوطني تكتسب محتوى طبقيا وأيديولوجياً وسياسياً جديداً، بدأت ملامحه الأساسية منذ أعقاب الحرب العالمية الثانية على يد الطبقة البورجوازية الصغيرة الصاعدة والتي لمست افلاس الطبقة الإقطاعية – البورجوازية الكبيرة عن حل معضلات التحرر الوطني وانتهاج سياسة وطنية فعالة معادية للاستعمار والامبريالية والصهيونية. ثم جاءت نكبة 48 لتحكم حكما قاطعا على عجز الأنظمة والقيادات الإقطاعية – البورجوازية لحماية الوطن ومجابهة الصهيونية والامبريالية.

         وطرحت الطبقة البورجوازية، القائدة لحركة التحرر الوطني العربية والفلسطينية، برنامجا طبقيا وأيديولوجياً وسياسياً ذا طبيعة بورجوازية صغيرة لحل معضلات التحرر الوطني بهدم وإسقاط تحالف الإقطاع

التقرير السياسي الأساسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
المصدر: “الوثائق الفلسطينية العربية لعام 1968 مؤسسة الدراسات الفلسطينية بيروت، مج 4، 653 – 671”

ورأس المال والاستعمار المسؤول عن هزيمة حركة التحرر الوطني العربية والفلسطينية والمسؤول عن نكبة 48، وإقامة تحالف العمال والفلاحين الفقراء والجنود والبورجوازية الصغيرة، وقد احتلت البورجوازية الصغيرة دور الطبقة القائدة في ظل سيادة أيديولوجية البورجوازية الصغيرة، (فالأفكار السائدة هي أفكار الطبقة السائدة).

         وقد تمثل هذا الصراع الوطني – والذي هو في حقيقته صراع طبقي وطني – في برنامج التحولات الطبقية والاقتصادية والسياسية البورجوازية الصغيرة الذي تمثل رسميا في الجمهورية العربية المتحدة وسورية والجزائر وإلى حد ما في العراق لإسقاط تحالف الإقطاع ورأس المال والاستعمار، ومحاولة حل معضلات التحرر الوطني والثورة الوطنية الديمقراطية بهدم الاقتصاد الإقطاعي – البورجوازي الكومبرادوري، وبناء اقتصاد يعتمد التصنيع الخفيف بالدرجة الأولى، وحل المسألة الزراعية في صالح الفلاحين الإجراء والفقراء ومحاولة كهربة البلاد، كل هذا لتأمين قاعدة اقتصادية مستقلة عن السوق الرأسمالية العالمية، وقاعدة سياسية واجتماعية وطنية معادية للاستعمار و الصهيونية، وبناء جيوش وطنية نظامية عصرية لحماية الوطن وتحرير فلسطين. وأمام عنف الصراع الوطني – الطبقي لم تنتظر قوى الثورة المضادة طويلا فبادرت بتنظيم عدوان سنة 1956 الأنجلو – فرنسي الصهيوني لتصفية النظام الوطني المعادي للاستعمار والرجعية والصهيونية والذي يهدد مصالح ومواقع الثورة المضادة على الأرض الفلسطينية المحتلة وعلى الأرض العربية. وبعد عدوان سنة 56 حاول الاستعمار الجديد – وعلى رأسه الولايات المتحدة الاميركية – احتواء حركة التحرر الوطني العربية متمثلة بالأنظمة الوطنية من الداخل بعد فشل محاولة التصفية من الخارج. ولكن الأنظمة الوطنية رفضت عمليات الاحتواء، وبقيت تخوض معركتها الوطنية مع الاستعمار القديم والجديد بنفس متقطع ينسجم مع طبيعتها الطبقية البررجوازية الصغيرة المترددة، حتى تأكدت الامبريالية الاميركية من فشل سياسة الاحتواء السلمية “لتركيع” حركة التحرر الوطني العربية، والوصول إلى “تصفية” للقضية الفلسطينية لصالح إسرائيل، وإعادة ترتيب الخارطة الطبقية والسياسية في المنطقة لصالح الأنظمة الإقطاعية – البورجوازية اليمينية الرجعية التي تشكل القواعد المادية والسياسية للإمبريالية في المنطقة وصمام امان لدولة إسرائيل.

         من هنا لم تكن الأنظمة الرجعية العربية هي المخاطبة بحرب حزيران (يونيو) بل كانت الأنظمة الوطنية وكافة فضائل حركة التحرر الوطني العربية والفلسطينية، فلماذا كانت الهزيمة؟ وبأي برنامج للعمل الوطني جابهت الأنظمة الوطنية وحركة التحرر الوطني الفلسطينية والعربية هزيمة حزيران (يونيو)؟

         لقد أعطى منظرو البورجوازية الصغيرة والمنظرون الرجعيون والبورجوازيون (فلسطينيون وعرب) تفسيرات وتحليلات للهزيمة يمكن حصرها في مسألة التفوق العلمي والتكني والحضاري لإسرائيل والامبريالية الاميركية التي تحتضنها، والمسألة الثانية بكوننا بلدانا متخلفة صغيرة فان بلادنا لا تستطيع “مجابهة ومناطحة” الامبريالية الاميركية التي تملك آلة حرب طاغية في تفوقها التكني على أي بلد من البلدان المتخلفة في آسية وافريقية واميركة اللاتينية. وخلص هذا النفر من المنظرين والمحللين إلى نتيجة مؤداها أن انتصارنا على إسرائيل يتطلب اللحاق بها والتفوق عليها بالعلم والتكنيك.

         وعلى الجانب الآخر حاول بعض المنظرين البورجوازيين الصغار والرجعيين ان يفسروا الهزيمة بسلسلة أخطاء عسكرية تكنية وقع فيها هذا الجيش أو ذاك كمفاجأة الطيران العربي بضربة قاضية مثلا.

         ان المنظرين والمحللين البورجوازيين الصغار والرجعيين (من فلسطينيين وعرب) يقفزون بطريقة بهلوانية عن وقائع التاريخ المعاصر في محاكماتهم لهزيمة العرب في حزيران (يونيو)، ويقفزون عن قصد عن العوامل الأساسية لتجرع الهزيمة في ستة أيام رغم اكداس الشعارات الصاخبة قبل 5 حزيران (يونيو) “شبراً شبراً”، “حرب التحرير الشعبية”، و”سياسة الأرض المحروقة”، هذه العوامل التي شكلت المقدمات الموضوعية المادية للنتيجة التالية “هزيمة حزيران (يونيو)”. فاذا كان التفوق العلمي والتكني الإسرائيلي والامبريالي العامل الأساسي في الهزيمة، فكيف يكون تفسير المجابهة الفيتنامية لنصف مليون جندي اميركي بالإضافة إلى نصف مليون جندي تابع لحكومة سايجون العميلة؟

التقرير السياسي الأساسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
المصدر: “الوثائق الفلسطينية العربية لعام 1968، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، مج 4، ص 653 – 671”

واذا لم تكن لنا قدرة كبلد ضعيف ومتخلف على الصمود ومناطحة اميركة فكيف يكون تفسير المناطحة الفيتنامية والكوبية للامبريالية الاميركية مع تفوق آلة الحرب الاميركية؟ واذا كانت الهزيمة نتاج حفنة أخطاء تكنية عسكرية فلماذا تجرع الهزيمة واختفاء شعارات القتال شبرا شبرا، وحرب التحرير الشعبية؟ بينما تخوض فيتنام حربها الشعبية الثورية شبرا شبرا، قولا وفعلا ولا تخلو حربها من انتكاسات وهزائم تلحق بالطوابير النظامية لجيش فيتنام الثوري في الشمال والجنوب.

          ان شعب فلسطين، وشعوب الأمة العربية لو أخذت بتحليلات منظري الرجعية والبورجوازية الصغيرة لاحتاجت إلى أكثر من قرن من الزمان حتى تتمكن من اللحاق بالتقدم العلمي والتكني الصهيوني – الامبريالي وتردم الفجوة الحضارية الواسعة بين بلدنا الزراعية المتخلفة، وإسرائيل الصناعية المقدمة المدعومة من الامبريالية العالمية وخاصة الاميركية.

          ان حقائق التاريخ الثوري المعاصر للشعوب المتخلفة تفضح وتكذب ادعاءات منظري الرجعية والبورجوازية الصغيرة، وتكشف عن العوامل الأساسية لهزيمة العرب في حزيران (يونيو)، وصمود شعب فيتنام الصغير (30 مليون نسمة) وشعب كوبة (7 ملايين نسمة) في وجه الامبريالية الاميركية وتحقيق الهزيمة المؤكدة بالاستعمار الاميركي وآلة حربه المتفوقة علميا وتكنيا على أسلحة الشعب الفيتنامي والكوبي. فلماذا الهزيمة في بلادنا، والمجابهة والمناطحة هناك؟

          في فيتنام وكوبة أنظمة وطنية ثورية ذات تكوين طبقي بروليتاري وفلاحي فقير، تضع طاقات البلاد المادية والثقافية والمعنوية في خدمة حل معضلات التحرر الوطني والثورة الوطنية الديمقراطية، بتصفية كافة الامتيازات الطبقية المادية والمعنوية (الإقطاعية والبورجوازية) وبناء القاعدة المادية الصلبة للاستقلال الاقتصادي والسياسي، بالتصنيع الثقيل والزراعة الثقيلة الممكنة وكهربة البلاد. وتقف الطبقات الثورية في المجتمع على رأس تحالف الطبقات والقوى السياسية المعادية لتحالف الإقطاع ورأس المال والاستعمار. ومثل هذا البرنامج الاقتصادي والسياسي الوطني قادر على تعبئة وتسليح كل الطبقات المناضلة من أجل حل معضلات التحرر الوطني والنضال ضد الإمبريالية والاستعمار الجديد. وهنا يكتسب شعار “الحرب الشعبية” مدلولاته العملية الملموسة، حيث نجد أعرض الجماهير العاملة والفقيرة تنتظم في صفوف كتائب الميليشيا الشعبية، وكتائب الأنصار، وطوابير الجيش الوطني النظامي لدحر الامبريالية وكل القوى المحلية المتحالفة معها.

          في بلادنا المسألة مختلفة: أوضاع وتكوين حركة التحرر الوطني الفلسطينية والعربية هي التي كانت مخاطبة بحرب حزيران (يونيو)، وهي المخاطبة في المرحلة الراهنة في الرد على هزيمة حزيران (يونيو). في بلادنا تحتل الطبقة البورجوازية الصغيرة مركز الطبقة القائدة في حركة التحرر الوطني الفلسطينية والعربية، وقد قادت هذه الطبقة مجمل التحولات الطبقية والسياسية والاقتصادية والعسكرية ضمن الأفق الايديولوجي والطبقي والسياسي للبورجوازية الصغيرة. والذي هزم في حزيران (يونيو) 67، هو هذا الأفق الايديولوجي وبرنامج عمله الطبقي والاقتصادي والسياسي والعسكري، فالاقتصاد الذي بنته البورجوازية الصغيرة لم يتمكن من الصمود في وجه الهجمة الامبريالية الصهيونية لأنه اقتصاد استهلاكي يعتمد التصنيع الخفيف، والحلول الزراعية، قامت على تفتيت الأرض على حساب رفع الكفاية الإنتاجية، ومثل هذا الاقتصاد – بعد قفل قناة السويس – وجد نفسه مطالبا بالتراجع ومد يده إلى الأنظمة الرجعية البترولية حتى يتمكن من البقاء واقفا على قدميه.

          وفي مسألة العلاقة الأيديولوجية السياسية بقيت هذه الطبقة على قمة الهرم الاجتماعي والسياسي وترجمت “تحالف قوى الشعب العامل” إلى تحالف يضعها على قمة هذا التحالف، ويضع الجماهير العريضة من عمال وفلاحين وفقراء وجنود في قاعدة هذا الهرم، كي تبقى البورجوازية الصغيرة متحكمة في مجمل التحولات الجارية على أرض الوطن وفي حركة التحرر الوطني الفلسطينية والعربية.

          وبحكم الطبيعة الطبقية للبورجوازية الصغيرة – والتي تخشى الجماهير الشعبية بقدر ما تخشى من التركز الإقطاعي – الرأسمالي – لم تتمكن ببرنامجها الأيديولوجي والسياسي والطبقي البورجوازي الصغير من “بناء اقتصاد وطني متحرر من السوق الرأسمالية

التقرير السياسي الأساسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
المصدر: “الوثائق الفلسطينية العربية لعام 1968، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، مج 4، ص 653 – 671”

العالمية ومنفصل عنها في حركة تطوره”، وبالنتيجة لم تتمكن من نسف كافة الجسور مع الاستعمار الجديد والامبريالية العالمية عامة والاميركية خاصة.

         لذا كله، فقد راهنت البورجوازية الصغيرة في مسألة حماية الوطن وتأهيل البلاد (اقتصاديا وسياسيا وعسكريا) للعمل على تحرير فلسطين، راهنت على الجيوش النظامية ورفضت تسليح الشعب وتدريبه وتنظيمه في كتائب الميليشيا الشعبية، لوضع موضوعة “حرب التحرير الشعبية” التي تغنت بها البورجوازية الصغيرة موضع الترجمة اليومية الملموسة.

         بهذه الأوضاع، وبهذا البرنامج الوطني، دخلت الأنظمة البورجوازية الصغيرة حرب حزيران (يونيو)، ليتضح بالواقع الملموس “ان مثل هذا البرنامج لا يستطيع الصمود في وجه الاستعمار الجديد والصهيونية”. وفي اللحظة التي برزت فيها خيوط هزيمة الجيوش النظامية سارعت أنظمتها لطلب أو الموافقة على “وقف إطلاق النار” وتطايرت في الهواء الطلق اكداس الشعارات الثورية “القتال شبرا شبرا، حرب التحرير الشعبية، سياسة الأرض المحروقة… الخ”.

         ولم يكن أمام أنظمة البورجوازية الصغيرة الا واحدا من اختيارين: اما اختيار الطريق الفيتنامي الكوبي بإحداث انقلاب شامل في برنامج العمل الوطني لتعبئة كافة الطاقات المادية والبشرية والمعنوية للمجتمع ولحركة التحرر الوطني الفلسطينية والعربية على طريق تسليح الجماهير وشن “حرب تحرير شعبية ثورية” ضد كافة المصالح والمواقع الاستعمارية والصهيونية والرجعية المتحالفة مع الاستعمار، ووضع شعار “مقاتلة إسرائيل ومن هم وراء إسرائيل” موضع الترجمة الثورية اليومية المسلحة، بصدام عريض، وعلى جبهة عريضة ضد كل قوى الثورة المضادة التي تدعم وتحتضن إسرائيل أو تتعامل مع من يدعم إسرائيل، وبذا يأخذ ميزان القوى في الميل لكفة حركة التحرر الوطني الفلسطينية والعربية وتصح “مناطحة” اميركة وآلة الحرب الاميركية، ويحدث التفوق لصالح العرب بالتفوق البشري – الأمواج البشرية المقاتلة المتتالية – على التفوق التكني الإسرائيلي – الاميركي، كما هو حادث ويحدث يوميا في فيتنام وكوبة.

         والاختيار الآخر، البقاء ضمن المواقع والبرامج التي كانت قائمة حتى حزيران ( يونيو) 67 والتي اعطت هزيمة حزيران (يونيو)، ومعنى هذا، ان الحركة الوطنية الفلسطينية والعربية محكومة بالتراجع المتصل لصالح إسرائيل والامبريالية والقوى الرجعية العربية المتحالفة مع الاستعمار القديم والجديد. وهذا ما حدث – وبكل مرارة – ولم يأت بالصدفة ما حدث. فالأنظمة العربية الاقطاعية – البورجوازية لا يمكن أن تشن حربا على الاستعمار والامبريالية، فهي في تحالف قديم جديد مع الامبريالية ضد شعوبها، وضد حركة التحرر الوطني في بلادها، ومنذ سنة 48 حكمت على نفسها بالإفلاس عن حماية الوطن وتحرير فلسطين، وانحازت كليا إلى صف معسكر الثورة المضادة. والأنظمة الوطنية المعادية للاستعمار والصهيونية غير قادرة – بحكم تكوينها الطبقي والايديولوجي البورجوازي الصغير – على وضع برامج “حرب التحرير الشعبية” موضع الممارسة الثورية اليومية، لان هذا يتطلب بالضرورة تخليها عن امتيازاتها المادية والسياسية والمعنوية لصالح البرنامج الاقتصادي والسياسي والعسكري للثورة الشعبية على “إسرائيل والاستعمار الجديد”، وليس من طبقة في التاريخ تمارس نقيض مصالحها، وتتخلص طواعية عن مصالحها وامتيازاتها حتى ولو كان الوطن في خطر والبلاد تتمزق قطعة قطعة تحت أرجل أعداء الوطن.

         ان رفض الطريق الفيتنامي والكوبي الذي لا طريق غيره لانتصار البلدان المتخلفة وتفوقها على التفوق العلمي والتكني للامبريالية والاستعمار الجديد، يعني بالضرورة اختيار طريق التراجع المتصل أمام الصهيونية والاستعمار الجديد الذي تقوده الولايات المتحدة الاميركية العدو رقم (1) للبلدان المتخلفة على امتداد آسية وأفريقية واميركة اللاتينية.

         وطيلة الخمسة عشر شهرا الماضية على هزيمة حزيران (يونيو)، اتخذت الأنظمة العربية (الوطنية والرجعية) ذات المواقع والبرامج التي مارستها قبل حزيران (يونيو) والتي أعطت الهزل، ومن هنا حكمت على نفسها بالتراجع المتصل الذي بدأ باعتبار قرار مجلس الأمن مرفوضا، ثم ناقصا وغامضا، ثم اشتراط ارتباط بعض بنوده (المرور في قناة السويس خاصة) بالمسألة الفلسطينية برمتها، وأخيرا القبول “بقرار مجلس الأمن كاملا بلا أية شروط” مع

التقرير السياسي الأساسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
المصدر: “الوثائق الفلسطينية العربية لعام 1968، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، مج 4، ص 653 – 671”

تصريحات مطمئنة لاسرائيل “باعتبارها احدى الحقائق في الشرق الأوسط”.

        ونظرة علمية على قرار مجلس الأمن الصادر في تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1967، تثبت أن تنفيذه والقبول به، معناه دخول القضية الفلسطينية في “مرحلة التصفية”. فقرار مجلس الأمن هو في حد ذاته مؤامرة امبريالية لتصفية قضية فلسطين، ان القرار ينص:

  • حق كل دولة من دول الشرق الأوسط في الحياة في ظل “حدود آمنة”.
  • “اعتراف” كل دولة من دول الشرق الأوسط بحق غيرها في الحياة.
  • حق المرور “البريء” في الممرات المائية لجميع دول المنطقة بلا استثناء.
  • ايجاد حل “عادل” لمشكلة اللاجئين.

        بهذا يضع قرار مجلس الأمن القضية الفلسطينية في مأزق تاريخي صارم، يقود بالضرورة وبالنتيجة إلى تصفية القضية الفلسطينية.

        ان المسألة المطروحة على الأنظمة العربية القائمة، وعلى حركة التحرر الوطني الفلسطينية والعربية هي ليست مسألة الخوض في عملية جدل حول قرار مجلس الأمن، وماذا يعطي للعرب، وماذا يعطي لإسرائيل؟

        وهي ليست كذلك في مناقشة الموقف العربي، وهل هو موقف تكتيكي أم لا؟

        أن المسألة المطروحة هي في طبيعة البرنامج الاقتصادي والسياسي والعسكري والأيديولوجي الذي تأخذ به الأنظمة العربية وحركة التحرر الوطني الفلسطينية والعربية، وهل يؤدي هذا البرنامج إلى امكانات تصفية آثار عدوان حزيران (يونيو) لتحرير سيناء والضفة الغربية ومرتفعات الجولان كخطوة على طريق حرب طويلة الأمد لتحرير فلسطين وتصفية “الكيان الإسرائيلي العنصري العدواني”؟

        ان طرح المسألة في اطارها الصحيح ضرورة وطنية، لمحاصرة منظري اليمين الرجعي الفلسطيني الذي يدفع على طريق “تصورات وهمية” تعزل حركة المقاومة الفلسطينية عما يجري في المنطقة العربية فيما يختص ويمس القضية الفلسطينية يوميا.

        وطرح المسألة في اطارها الصحيح ضرورة وطنية لمحاصرة وكشف منظري اليمين الرجعي العربي، ومنظري البورجوازية الصغيرة الذين يحاولون تصوير الموقف من قرار مجلس الأمن بأنه عملية تكتيكية تارة، وبأنه ضرورة لا مفر منها في ظل الأوضاع الراهنة حيث لا قدرة للعرب على “مناطحة اميركة” نظرا للتفوق العلمي والتكني الهائل بين العرب وبين الامبريالية الأميركية، وما يصدق على اميركة يصدق على إسرائيل إلى حد بعيد، ومن ضرورة الأخذ بقرار مجلس الأمن.

        وحتى الذين يرفضون قرار مجلس الأمن، مطالبين بقرن هذا الرفض ببرنامج مادي ملموس “اقتصادي عسكري” من لون جديد، ومختلف عن برنامج ما قبل الهزيمة، والا تحولت عملية الرفض، إلى عملية ديماغوجية مزيفة لا مضمون ولا قيمة لها، وهي “لا” – أي لا لقرار مجلس الأمن – فارغة، شبيهة باطنان الشعارات الثورية الديماغوجية التي اختفت من حيز الممارسة أثناء حرب حزيران (يونيو).

  •  

الأوضاع العربية والقضية الفلسطينية بعد حزيران ( يونيو):
خلاصات ونتائج

        بعد مرور خمسة عشر شهرا على هزيمة حزيران (يونيو)، اتضح من خلال التحليل الملموس ان الأنظمة العربية وحركة التحرر الوطني الفلسطينية والعربية لم تتمكن من وضع مقدمات ونتائج حزيران (يونيو) موضع المحاكمة النقدية، وبلورة هذه المحاكمة في برنامج عمل وطني ثوري، قادر على احداث سلسلة تحولات في الأوضاع والطاقات العربية على طريق تأهيل المنطقة لممارسة برنامج “حرب التحرير الشعبية” ضد الثورة المضادة (إسرائيل القوى العربية المتحالفة مع الاستعمار القديم والجديد). وطبيعي أن تكون النتائج كذلك لان الأنظمة العربية وحركة التحرر الوطني الفلسطينية والعربية غير مؤهلة بأوضاعها الراهنة (الطبقية والأيديولوجية والسياسية) لممارسة سياسات وطنية جذرية تضع

التقرير السياسي الأساسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
المصدر: “الوثائق الفلسطينية العربية لعام 1968، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، مج 4، ص 653 – 671”

الجماهير الفلسطينية والعربية في مواقع الصدام مع الثورة المضادة بدلا من بقائها وإبقائها في مواقع المتفرجين بانتظار معجزة تحدث في عصر انتهى فيه عهد المعجزات. كما ان مطالبة الأوضاع الراهنة بإنتاج سياسة “حرب التحرير الشعبية” هي مطالبة مغلوطة أساسا، اذ ان هذه الأوضاع لا تفرز نقيضها حيث التصادم مع طبيعتها ومصالحها وعلاقاتها المحلية والدولية.

         وفي مقابل برنامج “حرب التحرير الشعبية” أي الطريق الفيتنامي والكوبي في مجابهة “ومناطحة” الهجمة الامبريالية – الصهيونية، سلكت الأنظمة العربية طريق ذات البرامج والمقدمات التي كانت قائمة حتى حزيران (يونيو) 67 وأعطت النتيجة المعروفة: الهزيمة.

         وهذا ما دفع هذه الأنظمة على اختلاف أوضاعها الطبقية والسياسية إلى التراجع المتصل لصالح إسرائيل والامبريالية منذ حزيران (يونيو) حتى الآن. فبدلا من حملة تعبئة أيديولوجية وسياسية وثورية على امتداد الأرض الفلسطينية والعربية للدخول في عملية صدام شعبية مسلحة وغير مسلحة لضرب وتدمير المصالح والمواقع الامبريالية، وعلى رأسها مصالح ومراكز الولايات المتحدة الاميركية، التي تحتضن وتدعم اسرائيل بشكل صارخ ومكشوف منذ سنة 48 وحتى الآن. بدلا من هذه السياسة الوطنية الشريفة، تراجعت الأنظمة العربية وأخذت بمغازلة الولايات المتحدة في ظل الحفاظ على جميع مصالحها الاستعمارية التي تمتص فيها دم الجماهير الفلسطينية والعربية، وتغذي بها دولة إسرائيل، بينما ان الواقع الملموس يؤكد ان “لوي عنق إسرائيل يكون بلوي عنق الامبريالية الاميركية على امتداد الأرض العربية”.

  • وبدلا من رفض قرار مجلس الأمن التصفوي، انتهت الأنظمة العربية إلى الأخذ به ودعوة الدول الأربع الكبرى الى دفع اسرائيل للأخذ به وضمانته دوليا.
  • وبدلا من الأخذ فورا وبلا تردد ببرامج “الحرب الطويلة الأمد”، وذلك بعسكرة الاقتصاد وفرض سياسة التقشف، وتسليح الشعب وتنظيمه في كتائب الميليشيا الشعبية بالإضافة الى تسليح الجيوش النظامية، وذلك لشن حرب شعبية طويلة الأمد يحدث بها التفوق العربي على التفوق التكني والعلمي للصهيونية والامبريالية الاميركية، بدلا من هذا عادت الأنظمة العربية الى سياسة اعتماد نظرية الجيوش النظامية التي انهارت أمام التفوق العلمي والتكنولوجي الامبريالي – الإسرائيلي في حرب حزيران (يونيو)، ومرة أخرى اختيار طريق الحرب النظامية التي ليست في صالح العرب وهي ليست في صالح أي بلد متخلف وفقير يخوض معارك تحرره الوطنية مع قوى متفوقة عليه علميا وتكنيا، هذا بالوقت الذي بات واضحا أن معركة التحرير الوطنية في البلدان المتخلفة تتطلب تفوقا بشريا على التفوق التكني الإمبريالي، ومثل هذا التفوق يتطلب تنظيم الشعب وتسليحه للقتال الطويل النفس العالي التضحيات البشرية لتحقيق النصر، وهزم “إسرائيل ومن هم وراء إسرائيل في بلادنا”.

         مرة أخرى عودة إلى ذات المقدمات التي سبقت حزيران (يونيو) 67، ومن هنا تفسير التراجع المتصل القائم لصالح “قرار مجلس الأمن التصفوي” لان رفض القرار، عملا لا قولا، يتطلب انتهاج طريق مختلف جذريا عن الطريق الذي اخذت به الأنظمة العربية طيلة الخمسة عشر شهرا الماضية على هزيمة حزيران (يونيو). اما اذا اصرت إسرائيل على تفسير القرار على هواها – وهي في موقع المنتصر – وخاصة قضايا الحدود الآمنة على حساب انتزاع المزيد من الأرض العربية وضمها إلى الأرض المحتلة قبل 5 حزيران (يونيو)، فليس أمام الأنظمة العربية الا واحدا من موقفين: اما المزيد من التراجع، أو الدخول في حرب قصيرة النفس نتائجها معروفة منذ الآن لان الأوضاع العربية غير مؤهلة لوضع برنامج الحرب الطويلة الأمد موضع الترجمة اليومية الفعالة على امتداد الأرض الفلسطينية والعربية لإرغام الامبريالية وإسرائيل على التراجع وتصفية الكيان الإسرائيلي العنصري العدواني.

حركة المقاومة الفلسطينية
والمسألة الوطنية الفلسطينية

         مثلت حركة المقاومة الفلسطينية النقطة المضيئة على خارطة الوضع العربي القائمة، أثر هزيمة

التقرير السياسي الأساسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
المصدر: “الوثائق الفلسطينية العربية لعام 1968 ، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، مج 4، ص 653 – 671”

حزيران (يونيو). وانتظرت الجماهير الفلسطينية والعربية منها ان تشق طريقا جديدا لحركة التحرر الوطني الفلسطينية خاصة، والعربية عامة، بدءا من وضع تجربة حركة التحرر الوطني الفلسطينية على امتداد تاريخها الحديث موضع المحاكمة النقدية الصارمة، مرورا بنكبة 48، وهزيمة 67، واستخلاص القوانين، الأساسية منها، وانتهاء بممارسة سياسة وطنية جذرية في كافة مواقفها الفلسطينية وفيما يمس القضية الفلسطينية عربيا ودوليا.

         فهل تحركت قوى المقاومة على هذا الطريق الجديد؟ وهل مثلت وضعا وطنيا جذريا متجاوزا الأوضاع الفلسطينية والعربية التي أعطت حزيران (يونيو)؟

         ان التحليل الملموس لممارسة حركة المقاومة السياسية والمسلحة اليومية، كفيل بتقديم الأجوبة الملموسة، والكشف عن الآفاق الموضوعية والعملية لحركة المقاومة الراهنة.

         في حيز الممارسة اليومية وعلى امتداد الخمسة عشر شهرا التالية على حزيران (يونيو) 67، تمثل الخط السياسي العام لحركة المقاومة بالخطوط الأساسية الآتية:

أولا – في اطار العلاقات العربية:
         طرحت حركة المقاومة بكافة فصائلها شعار “عدم التدخل في الأوضاع العربية”، فكيف ترجمت حركة المقاومة هذا الشعار من الواضح أنه ليس مطلوبا من حركة المقاومة الفلسطينية ان تنوب عن حركة التحرر الوطني في كل قطر عربي، في نضالها لحل معضلات التحرر الوطني والثورة الوطنية الديمقراطية في هذا القطر أو ذاك، لوضع هذه الأقطار على طريق تعبئة وتجنيد كافة الطاقات المادية والبشرية والثقافية ضمن برنامج “الحرب الثورية المسلحة” ضد إسرائيل والامبريالية وكافة القوى العربية المتحالفة مع الاستعمار، والدخول في حرب طويلة الأمد للتفوق على التفوق العلمي والتكني الإسرائيلي – الامبريالي. ان هذه مسألة تخص حركة التحرر الوطني في كل قطر عربي.

         ولكن من الواضح ايضا ان شعار “عدم التدخل في الأوضاع العربية” شعار ذو حدين، فكما انه يعني عدم الإنابة عن حركة التحرر الوطني العربية في حل معضلات التحرر الوطني لبلدانها، فهو يعني، في الوقت ذاته، ان على حركة المقاومة الفلسطينية التدخل بكل ما يمس القضية الفلسطينية في سياسات الأنظمة “والأوضاع العربية”، وإلا تحول هذا الشعار في التحليل الأخير إلى شعار “عدم تدخل حركة المقاومة الفلسطينية في الشؤون الفلسطينية ذاتها”. فالقضية الفلسطينية لا يمكن فصلها عن الأوضاع العربية بإرادة ذاتية لهذا الفصيل أو ذاك من فصائل حركة المقاومة، وأية محاولة من هذا القبيل هي عمليه قفز مشبوهة عن حقائق التاريخ الفلسطيني القديم والوسيط والحديث. والتاريخ المعاصر بالتحديد يكشف بوضوح كامل العلاقة الجدلية اليومية بين تطورات القضية الفلسطينية والتطورات العربية وارتباطاتها الدولية، ويكفي للتذكير ان ثورة سنة 36 صفيت بقرار ونداء من الملوك والرؤساء العرب وبموافقة القيادات الفلسطينية الإقطاعية – البورجوازية، وان جملة الأوضاع الفلسطينية والعربية هي التي قررت مصير فلسطين وشعبها سنة 48. كما ان الأوضاع العربية ذاتها هي التي أعطت هزيمة حزيران (يونيو) وأصبحت “فلسطين محتلة من البحر إلى النهر” على يديها.

         وبعد حزيران (يونيو) 67 أخذت الأوضاع العربية – في مواجهة الهجمة الامبريالية الصهيونية – بخط البحث عن “تسوية سياسية للقضية الفلسطينية” عبر قرار مجلس الأمن التصفوي. ويوميا تتأكد العلاقة الجديدة بين “الأوضاع العربية” و”القضية الفلسطينية”.

         ان اليمين الرجعي الفلسطيني الذي طرح غداة هزيمة حزيران (يونيو) شعار “عدم التدخل في الأوضاع العربية” فصل، فصلا تعسفيا مشبوها، بين الأوضاع العربية وتطورات القضية الفلسطينية. وهو عندما يحاول التشبه “بالتجربة الجزائرية” ينسى أو يتناسى، الخصائص الذاتية والموضوعية المختلفة جذريا للقضية الفلسطينية وارتباطها اليومي بالتطورات المحيطة بفلسطين، وبالسياسات الامبريالية في الشرق الأوسط. كما ان هذا اليمين الرجعي يقفز، عن سابق تصميم، عن “خصوصية إسرائيل” واختلافها عن كافة الوان الاستعمار القديم والجديد.

         فإسرائيل تمثل رأس جسر وقاعدة للاستعمار القديم

التقرير السياسي الأساسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
المصدر: “الوثائق الفلسطينية العربية لعام 1968، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، مج 4، ص 653 – 671”

والجديد في البلاد العربية وفي منطقة الشرق الأوسط، يدعمها الاستعمار ويطلق يدها – طبقا للمخططات الإمبريالية – للإسهام في قمع حركة التحرر الوطني العربية التي تهدد مصالحه الامبريالية في البلاد العربية. وعلى المراقب ان يلاحظ ارتباط “الوعد بتهويد فلسطين” بظاهرة الغزو الاستعماري لفلسطين والبلاد العربية، وعليه ان يراقب دور إسرائيل والصهيونية منذ الهزيمة وحتى الآن في الاستجابة لمخططات الامبريالية الموضوعة للشرق الأوسط لتصفية الأنظمة الوطنية وحركة التحرر الوطني في المنطقة لصالح الثورة المضادة.

         وإسرائيل تمثل مجتمعا ديناميكيا له أطماعه الأرضية التوسعية في المنطقة بالإضافة إلى فلسطين، وهو مجتمع متقدم علميا وتكنيا على بلادنا المتخلفة، مما يضع البلاد العربية موضع أطماعه وأحلامه التوسعية. كما ان الارتباط العضوي بين إسرائيل والامبريالية الاميركية خاصة، يفترض بالضرورة الوطنية والقومية الارتباط العضوي بين حركة التحرر الوطني الفلسطينية والعربية لمجابهة الخطر المشترك، هذا فضلا عن كون فلسطين جزءا من البلاد العربية ومصيرها مرتبط بمصير البلاد العربية.

         مع كل هذا قفز اليمين الرجعي الفلسطيني عن حقائق التاريخ الفلسطيني وطرح شعار “عدم التدخل بالأوضاع العربية” بصيغة مطلقة وترجم هذا الشعار في حيز الممارسة اليومية إلى مؤامرة صمت كاملة على مواقف الأوضاع العربية المتخاذلة تجاه القضية الفلسطينية في المرحلة الراهنة. وبكل مرارة فقد انساقت كافة فصائل المقاومة بما فيها الجبهة الشعبية وراء هذا الشعار الديماغوجي الرجعي والمشبوه وتحول شعار “عدم التدخل بالأوضاع العربية” على يد كافة فصائل حركة المقاومة طيلة الفترة الماضية منذ حزيران (يونيو) وحتى الآن، إلى “عدم التدخل بالمواقف العربية التي تمس القضية الفلسطينية”. فلم يقف أي فصيل من فصائل حركة المقاومة حتى الآن وقفة محاكمة نقدية لهزيمة حزيران (يونيو) ومسؤولية الأوضاع العربية في الوصول إلى هذه النتيجة بعد اعداد عشرين عاما من أجل تحرير فلسطين. ولم يقف أي فصيل حتى الآن باسم شعار “عدم التدخل بالأوضاع العربية” ليحاكم علنا، وأمام الجماهير الفلسطينية، كل ما يجري ويتخذ من مواقف عربية تجاه قضية فلسطين وقرار مجلس الأمن. ومن سخريات القدر ان يقف “الحاج أمين الحسيني” الذي باع ثورة سنة 36 ببيان من الملوك والرؤساء العرب لينتقد علنا تصريحات عربية مسؤولة إلى صحيفة لوموند الفرنسية في أيار (مايو) 68 حول قرار مجلس الأمن، بينما تقف حركة المقاومة بكافة فصائلها (بما فيها الجبهة الشعبية) صامتة تجاه هذه التطورات في الوقت الذي تواجه فيه قضية فلسطين بمأزق تاريخي يتهددها بالتصفية.

         وهكذا، وبالوقائع الملموسة، تحول الشعار الديماغوجى “عام التدخل بالأوضاع العربية” الذي طرحه اليمين الرجعي الفلسطيني وانساقت وراءه كل فصائل حركة المقاومة، تحولا موضوعيا وعمليا إلى “عدم التدخل بالشؤون الفلسطينية”.

         ان الجبهة الشعبية تقف علنا لتدين “هذا الشعار بالمضامين التي مورس بها طيلة الخمسة عشر شهرا الماضية”، وهي بهذا تدين وتنقد علنا خطأ ممارستها لهذا الشعار وتحذر كافة الفصائل الوطنية الشريفة من حركة المقاومة، من خطر الانسياق وراء مثل هذه الشعارات الديماغوجية على القضية الفلسطينية في المرحلة الراهنة.

         ان حركة المقاومة، ليست مطالبة بأن تنوب عن حركة التحرر الوطني في هذا القطر أو ذاك للنضال من أجل حل معضلات التحرر الوطني والثورة الوطنية الديمقراطية المعادية للاستعمار والصهيونية وكافة القوى العربية المتحالفة مع الامبريالية. ولكن حركة المقاومة مطالبة، يوميا، بأن تضع “موقف الدول العربية والأوضاع العربية من القضية الفلسطينية موضع المحاكمة النقدية الملموسة العلنية أمام الجماهير، كما أنها مطالبة ان تضع مسؤولية الأوضاع العربية تجاه القضية الفلسطينية موضح المحاكمة النقدية العلنية”، وأية عملية صمت تجاه كل ما يمس القضية الفلسطينية لهذه الدولة العربية أو تلك هي مؤامرة صمت على قضية فلسطين ترتكبها حركة المقاومة – بوعي أو بدون وعي فليس هذا هو المهم.

         ان على حركة المقاومة، وبالتحديد على فصائلها الوطنية الشريفة، ان تضع شعار “عدم التدخل بالأوضاع العربية” في موقفه الصحيح “بالتدخل بكل ما يمس قضية فلسطين من طرف الأوضاع

التقرير السياسي الأساسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
المصدر: “الوثائق الفلسطينية العربية لعام 1968، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، مج 4، ص 653 – 671”

العربية “وإلا تحول هذا الشعار – كما تحول طيلة فترة الخمسة عشر شهرا الماضية – إلى شعار ديماغوجي تضليلي، تمارس عبره المقاومة اسدال ستار من الصمت تجاه احتمالات “التسوية السياسية” الجارية، وتصفية قضية فلسطين، بقرار مجلس الأمن.

ثانيا – مسألة الوحدة الوطنية الفلسطينية:

         وقعت حركة المقاومة بكافة فصائلها (بما فيها الجبهة الشعبية) في خطأ أساسي تجاه “مسألة الوحدة الوطنية الفلسطينية” سواء في المواقف النظرية أو في الممارسات العملية اليومية. وفي ظل سيادة أيديولوجية ونظريات اليمين الرجعي الفلسطيني في كافة أوساط وصفوف حركة المقاومة لم يتمكن أي فريق من فرقاء حركة المقاومة ان يطل على الرؤيا الوطنية الأساسية حول هذه المسألة – مسألة الوحدة الوطنية – وكما فشلت حركة المقاومة – بكافة فصائلها – في وضع شعار “علاقات حركة المقاومة الفلسطينية بالأوضاع العربية” في موضعه الوطني والقومي الصحيح، فقد فشلت فشلا مطلقا في وضع شعار “الوحدة الوطنية الفلسطينية” في موضعه الصحيح، وغرقت كليا – منذ حزيران (يونيو) وحتى الآن – في سلسلة من الممارسات المناقضة لمصلحة حركة المقاومة، والمتعاكسة مع اكسابها محتوى وطنيا جذريا معاديا لكل أعداء الشعب الفلسطيني وحركة التحرر الوطني الفلسطينية. وترجمت حركة المقاومة شعار “الوحدة الوطنية” – بالممارسة والنتائج – في صالح الإطارات الطبقية والسياسية الرجعية التي حكمت على نفسها، وعبر تاريخها السياسي الطويل، بالتخلي عن حركة التحرر الوطني الفلسطينية والانتفاضات الشعبية الفلسطينية، ولم تقف هذه الإطارات والقيادات الطبقية الرجعية عند حدود التخلي عن حركة التحرر للفلسطينية، بل انحازت تاريخيا إلى معسكر الثورة المضادة، واتخذت مواقف تنسجم مع مصالحها الطبقية والسياسية، وهي مواقف ذات طبيعة خيانية في آخر التحليل.

         أن حركة المقاومة – بحكم أزمتها التكوينية، الأيديولوجية والطبقية والسياسية “وهذا ما سنتطرق إليه بعد قليل” – لم تتمكن من وضع تجربة حركة التحرر الوطني الفلسطينية الحديثة موضع المحاكمة النقدية الملموسة لتكشف عن المواقع السياسية والطبقية والوطنية لكل طبقة من طبقات المجتمع الفلسطيني ولكل اطار من اطاراته القيادية على امتداد الخمسين عاما الأخيرة. كل هذه العملية النقدية الملموسة لتتعرف حركة المقاومة – في كل أو بعض فصائلها – على القوانين الأساسية، الطبقية والأيديولوجية والسياسية لحركة التحرر الوطني في البلدان المتخلفة عموما في هذا العصر – عصر الاستعمار والامبريالية، وحركة التحرر الوطني الفلسطينية خصوصا.

         ان حركة المقاومة، قفزت عن حقائق التاريخ الفلسطيني المعاصر، في فهمها وممارستها لقضايا “الوحدة الوطنية”، وانساقت وراء ممارسات خاطئة ورجعية “لقضايا الوحدة الوطنية” ، وأدت هذه المحاولات إلى “وضع الإطارات والقيادات الطبقية الرجعية على رأس حركة المقاومة”، وهي ذات الإطارات والقيادات التي قادت حركة التحرر الوطني الفلسطينية والثورة الوطنية إلى الفشل على امتداد تاريخ فلسطين الحديث. ففي الوقت الذي يقاتل فيه أبناء الطبقات الثورية من عمال وفلاحين فقراء ومثقفين ثوريين من أجل تحرير الوطن ورفض الاحتلال الصهيوني، جاءت قيادات حركة المقاومة لتكرس، على رأس القيادة السياسية لحركة المقاومة، اطارات اقطاعية ورأسمالية مترفة لا علاقة لها بالكفاح المسلح على امتداد تاريخ فلسطين الحديث. لقد فهمت حركة المقاومة شعار “الوحدة الوطنية” بشكل معكوس، وجعلته واقفا على رأسه بدلا من الوقوف على رجليه. ومن هنا تشكلت “الوحدة الوطنية” في ظل قيادة العناصر الإقطاعية، والصيارفة المليونيرية من أصحاب البنوك، وكبار التجار، وعتاة الرجعية الفلسطينية بدءا من المشاركة “بالتجمع الوطني الأردني” الذي احتوى كل رموز الرجعية الفلسطينية والأردنية التي ذاق شعبنا الويلات على يديها، وانتهاء بالمجلس “الوطني” الفلسطيني الذي جمع كل ممثلي الرجعية الفلسطينية وعلى رأسها شلة المليونيرية من أصحاب البنوك وكبار المقاولين التي اشترطت ان تكون على رأس المجلس الوطني، بينما شكلت حركة المقاومة ذراعها الأيمن والأيسر (فتح، والجبهة الشعبية).

         ان المسألة المطروحة ليست في الأخذ بشعار

التقرير السياسي الأساسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
المصدر: “الوثائق الفلسطينية العربية لعام 1968، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، مج 4، ص 653 – 671”

“الوحدة الوطنية” أو رفضه. ولكن المسألة هي في وضع هذه الموضوعة في اطارها الصحيح، وطنيا وسياسيا.

         ان المحاكمة النقدية لتجربة الحركة الوطنية الفلسطينية والثورات والانتفاضات الشعبية الفلسطينية، تكشف بوضوح عن القوانين الأساسية “الطبقية والأيديولوجية والسياسية” التي قادت الحركة الوطنية إلى الفشل على امتداد هذا القرن، كما تكشف عن القوانين الأساسية التي تقود الحركة الوطنية إلى امكانات حل معضلات التحرر الوطني الفلسطيني وتحرير الوطن، وهنا تتضح مسألة العلاقة الطبيعية السياسية بين كافة الطبقات في مرحلة التحرر الوطني.

         ان تجارب الشعوب المناضلة ضد الاستعمار والأنظمة الرجعية المتحالفة معه كفيلة في توضيح القوانين الطبقية والأيديولوجية والسياسية لعملية التحرر الوطني والثورة الوطنية الديمقراطية في البلدان المتخلفة والصغيرة الضعيفة.وهذه القوانين عامة تنطبق على كل حركات التحرر الوطني في آسية وأفريقية واميركة اللاتينية، ومنها بلادنا الفلسطينية، والعربية. ومع ذلك فتاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية وحده، كفيل بالكشف عن هذه القوانين وبمعزل عن الاطلال على قوانين التحرر الوطني في البلدان المتخلفة.

         “بالتحليل الملموس للواقع الملموس” في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، يتضح افلاس وعجز الطبقات الإقطاعية والبورجوازية الكبيرة عن قيادة حركة التحرر الوطني، وحل معضلاتها، هذه الطبقات التي عادت حركة المقاومة بعد هزيمة حزيران (يونيو) لتبعثها من قبورها وتلبسها ثوبا وطنيا ليس ثوبها الحقيقي. وليس التحليل الملموس للوقائع بحاجة إلى تحليل كل تاريخ فلسطين الحديث لتتضح عملية الفرز بين الطبقات الوطنية المناضلة والمقاتلة وبين الطبقات الرجعية المتخاذلة والمتحالفة مع الاستعمار والرجعية للعربية ضد حركة التحرر الوطني والثورات الفلسطينية. فالنماذج البارزة كافية لإعطاء الإجابات الحسية على هذه المسألة. ولعل من أبرز النماذج ثورة سنة 1936، فقد اندلعت الثورة بمبادرة ذاتية منذ عام 35، من عناصر كادحة وفقيرة “ومن ابرزها رجل دين فقير هو الشيخ عز الدين القسام الذي رفضت الإقطاعية الدينية – الحاج أمين الحسيني – تعيينه خطيبا في أحد المساجد بعد ان علمت بلون نزعاته الوطنية”، واستجاب لها الفلاحون والفقراء في الريف وعمال المدن، ومنذ اللحظة الأولى لاندلاع الثورة، رفضت القيادات الإقطاعية الدينية “الحاج أمين الحسيني” والبورجوازية الكبيرة (أحزاب العائلات البورجوازية كحزب الدفاع، حزب الاستقلال … الخ) الاستجابة لنداء الثورة. ولم تكتف بذلك، بل رفضتها وطالبت باعتماد الوسائل السلمية لانتزاع الحقوق الوطنية “كالمذكرات، والمظاهرات، والمباحثات”. وعندما ثبتت الثورة المسلحة أقدامها فرضت بالقوة على الأحزاب الإقطاعية والبورجوازية ان تجتمع وتعلن تأييدها للثورة. وهنا وجدت هذه القيادات الرجعية، المتخاذلة والمتهادنة مع الاستعمار، بحكم كونها ترفض العنف المسلح وجدت نفسها غير قادرة على اجهاض الثورة من الخارج فاعتمدت خط اجهاضها من الداخل، وكان لها ما أرادت. فبعد ثلاث سنوات من الثورة المتصلة، تمكنت هذه القيادات من محاصرة الثورة وإجهاضها بقرار ونداء موجه من الملوك والرؤساء العرب بإنهاء الثورة، وتولى الحاج أمين الحسيني أمر توجيهه الى الثوار وتنفيذه مع وعد بالدخول في مفاوضات مع “الحليفة” بريطانية لتتفهم حق شعب فلسطين في تقرير مصيره ونيل استقلاله.

         وقد وقفت هذه القيادات الإقطاعية والبورجوازية ذاتها على رأس الحركة الوطنية إلى أن أوصلتها إلى نكبة 48، والحركة الوطنية مضروبة وممزقة وغير مؤهلة للقيام بأي دور وطني فعال، فاستسلمت للأنظمة العربية الإقطاعية – البورجوازية المتحالفة مع الاستعمار لتحصد النكبة وقيام إسرائيل.

         وبعد نكبة فلسطين، وعلى امتداد العشرين عاما حتى حزيران (يونيو) 67، أعلنت هذه القيادات انحيازها لمصالحها الطبقية والسياسية وانضوت تحت جناح الأنظمة العربية الرجعية المسؤولة عن نكبة 48. وذاق الشعب الفلسطيني على أيدي هذه القوي الطبقية الرجعية الويلات ممثلة بمشاركتها الفعالة في عمليات القمع لحركة التحرر الوطني الفلسطينية وفي تضليل الجماهير الفلسطينية بانتظار معجزات لا وجود

التقرير السياسي الأساسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
المصدر: “الوثائق الفلسطينية العربية لعام 1968، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، مج 4، ص 653 – 671”

لها في وجه الاستعمار والامبريالية وعصر العلم والتكنولوجيا.

         ان هذه اللمحة الخاطفة تكشف بوضوح عجز وخيانة الإقطاعية والبورجوازية الكبيرة – ممثلة برموزها البشرية لحركة التحرر الوطني الفلسطينية، وتكشف بالمقابل قانونا أساسيا من قوانين حركة التحرر الوطني ومؤداه ان الطبقات المعادية للاستعمار والصهيونية والمؤهلة لقيادة عملية التحرر الوطني وحمل السلاح في مرحلة ما بعد حزيران (يونيو) 67، هي الطبقات ذاتها التي قاتلت وحملت السلاح ضد الاستعمار البريطاني، ومؤامرات تهويد فلسطين، هي هذه الطبقات الثورية في المجتمع الفلسطيني والتي لن تخسر شيئا من حمل السلاح والقتال حتى الموت، بل ستكسب كل شيء: الوطن والأرض. وهذا ما تأكد بعد حزيران (يونيو)، فالذين حملوا السلاح هم من أبناء العمال والفلاحين الأجراء والفقراء بينما اختفى أبناء الإقطاعيين والفلاحين الأغنياء والرأسماليين من على مسرح القتال المسلح. ومع كل تجربة للحركة الوطنية الفلسطينية ودروسها الأساسية فقد تمكن اليمين الرجعي الفلسطيني ان ينفذ إلى قيادة حركة المقاومة بل ويصبح رأسها السياسي طيلة الخمسة عشر شهرا التالية على 5 حزيران (يونيو) تحت شعار “الوحدة الوطنية الفلسطينية” وبأن “مسألة التحرير تهم الجميع”، في الوقت الذي تثبت حقائق التاريخ الملموسة كذب هذه الادعاءات قبل نكبة 48 وبعد نكبة 48.

         ان الوحدة الوطنية الفلسطينية ضرورة وطنية سياسية، ولكن أية وحدة وطنية؟ انها الوحدة الوطنية التي تحقق انجازات تحررية، وتقود حركة المقاومة على طريق النصر بتعبئة الجماهير العربية وتسليحها واستنهاض هممها الوطنية الجذرية والجماعية على طريق حركة مقاومة طويلة الأمد تعتمد على العنف في مواجهة عدو يعتمد استراتيجية الضرب بسرعة وتحقيق الانتصار بسرعة.

         وهذه الوحدة هي وحدة جميع الطبقات والقوى السياسية في ظل قيادة الطبقات الوطنية الثورية التي حملت السلاح على امتداد تاريخ فلسطين الحديث، وحمل أبناؤها السلاح بعد حزيران (يونيو). ان تاريخ شعب فلسطين الحديث، وتاريخ حروب التحرير الشعبية في جميع البلدان المتخلفة، تثبت أن طبقة العمال والفلاحين الفقراء هي الطبقة المستعدة لحمل السلاح والقتال في حرب طويلة الأمد، تعتمد على الذات لدحر أعداء التحرر الوطني من امبرياليين وعملاء.

         ان الوحدة الوطنية الفلسطينية المطلوبة هي وحدة بين القوى “المقاتلة الثورية”، وفي ظل قيادتها تنتظم كافة القوى الطبقية والسياسية في جبهة تحرير وطنية عريضة تلتزم كافة أطرافها ببرنامج عمل وطني، سياسي وعسكري شعبي لحل معضلات التحرر الوطني والثورة الوطنية الديمقراطية.

         من هنا، فان الجبهة الشعبية تقف علنا لتدين شعار “الوحدة الوطنية” بالمضامين التي طرح بها، وبالممارسات التي جرت منذ حزيران (يونيو) 67 حتى الآن.

         وهي بهذا تدين وتنقد علنا، وأمام الجماهير، ممارستها السابقة بدءا من المشاركة بالتجمع “الوطني” الأردني وانتهاء بمشاركتها في المجلس الوطني الفلسطيني.

         وتطرح شعار الوحدة الوطنية في افقه الصحيح، ليقف على رجليه: وحدة طليعتها وقيادتها القوى المقاتلة “الثورية” في ظل برنامج عمل وطني جذري، لجبهة تحرير وطنية تتسع لكافة القوى الطبقية والسياسية المعادية للصهيونية والامبريالية العالمية عامة والاميركية خاصة، وكافة القوى العميلة والمتحالفة مع الامبريالية.

حركة المقاومة الفلسطينية في المرحلة الراهنة:
مقدمات ونتائج

         ان طبيعة ممارسات حركة المقاومة (فلسطينيا وعربيا) طيلة الفترة التالية على هزيمة حزيران (يونيو)، انتهت بحركة المقاومة الى نتائج سياسية تشكل في مجموعها ردة الى الوراء على دروس 5 حزيران (يونيو) الأيديولوجية والطبقية والسياسية، وتشكل هذه النتائج ردة الى الوراء أيضا على تجربة دروس حركة التحرر الوطني والانتفاضات الشعبية الفلسطينية في تاريخها الحديث، أيديولوجيا وطبقيا وسياسيا.

التقرير السياسي الأساسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
المصدر: “لوثائق الفلسطينية العربية لعام 1968، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، مج 4، ص 653 – 671”

         لقد انتهت حركة المقاومة الى النتائج الأساسية التالية:
         1 – في النظرية والممارسة، وقعت كافة فصائل المقاومة (ومن ضمنها الجبهة الشعبية). أسيرة أيديولوجية اليمين الرجعي الفلسطيني والعربي. ومن هنا فقد أسهمت، اسهاما فعالا، في طمس التناقضات الطبقية والأيديولوجية والسياسية، الفلسطينية والعربية، التي قادت شعب فلسطين وشعوب الأمة العربية الى الهزيمة على يد الأنظمة الحاكمة والمتحكمة في المنطقة والتي وضعت الجماهير والطبقات الأكثر ثورية وجذرية في المجتمع بعيدا عن المسؤولية أو حتى المشاركة فيها، وأبقت هذه القوى الثورية في مقاعد المتفرجين على المعركة بين الجيوش قبل الهزيمة وبعدها.

         ان حركة المقاومة بحكم سقوطها بيد ايديولوجية اليمين الرجعي، الواقف وراء ممارسات يومية (فكرية وسياسية) خاطئة بل ومتناقضة مع دروس تجربة حزيران (يونيو) 67، ونكبة 48، وتجربة ثورة 36. وبدلا من أن تحاكم وتنقد علنا العوامل والمقدمات الأساسية لنكبة 48، وهزيمة 67 حتى تتلمس الجماهير الفلسطينية والعربية طريقها الجذري لفتح جبهة عريضة مع الامبريالية وإسرائيل، وكل القوى العربية المتحالفة مع الاستعمار، والمضادة لحركة التحرر الوطني الفلسطينية والعربية. بدلا عن هذه السياسة الوطنية التي تفترضها دروس الهزيمة، غرقت في سلسلة شعارات ديماغوجية تتستر وتتسلح بها قوى اليمين الرجعي وأنظمة الهزيمة في المنطقة كشعار (عدم التدخل بالأوضاع العربية) (الوحدة الوطنية الفلسطينية) (لا يمين ولا يسار في مرحلة التحرر الوطني) لتمارس هذه الشعارات بالسياسات اليومية لحركة المقاومة، وفق مضامين في صالح قوى وأنظمة الهزيمة، لا في صالح قوى التحرر والخلاص الوطني الفلسطيني والعربي، ويوميا بالنتيجة الملموسة فشلت حركة المقاومة فشلا مطلقا في تعرية ومحاكمة وكشف عوامل ومقدمات نكبة 48 وهزيمة 67، فكريا وطبقيا وسياسيا، وساهمت في طمس التناقضات القائمة والتي أدت إلى هزيمة حزيران (يونيو)، ليكون الرابح أنظمة الهزيمة والدول العربية المتحالفة مع الاستعمار ضد تحرر وتقدم شعوبها، وليكون الخاسر، يوميا، وفي النتيجة قوى التحرر الوطني الفلسطينية والعربية.

         2 – وقد تحولت حركة المقاومة بحكم ممارساتها الجارية الى ورقة تكتيكية ضاغطة، بيد الأوضاع العربية الحاكمة، ورقة تكتيكية، على جماهير الأقطار العربية لوضعها من جديد في مقاعد المتفرجين والمنتظري الفرج من بعيد، كل هذا باسم حركة المقاومة الفلسطينية التي تقاتل على “أرض المعركة” والذي علينا – أي على الأنظمة العربية – أن ندعمها بالمال والسلاح. هذا البديل عن تسليح الشعب وتنظيمه في كتائب الميليشيا الشعبية وتأهيله ايديولوجيا وسياسيا واقتصاديا لمعركة صدام عريضة مع “إسرائيل ومن هم وراء اسرائيل” على امتداد الأرض الفلسطينية والعربية لشن حرب تحرير شعبية، طويلة الأمد، معتمدة على النفس في مقابل استراتيجية العدو القائمة على الحرب الخاطفة والانتصار – الخاطف.

         هذا أولا، وورقة تكتيكية ضاغطة ثانيا على الامبرياليبن وإسرائيل في سبيل الوصول الى “تسوية سياسية” يقل فيها حجم التنازلات التي تطلبها الإمبريالية وإسرائيل ثمنا للانسحاب من الأرض الفلسطينية والعربية المحتلة بعد 5 حزيران (يونيو) 67 وطبقا لقرار مجلس الأمن التصفوي الصادر في 22 تشرين الثاني (نوفمبر) 67.

         3 – في ظل هذه السياسات الخاطئة، والشعارات الديماغوجية لحركة المقاومة، بقيت الجماهير الفلسطينية والعربية عزلاء من الأسلحة الايديولوجية السياسية والمادية لحماية حركة المقاومة وتطويرها في مواجهة احتمالات “التسوية السياسية” والتي تشكل مسألة “تصفية حركة المقاومة جزءا لا يتجزأ من أية تسوية سياسية مطروحة”.

         ان حركة المقاومة بالتزامها الصمت تجاه دروس 1948، 1967، وهروبها من الوقفة النقدية الوطنية المطلوبة تجاه الظروف الذاتية، والموضوعية للأوضاع الفلسطينية والعربية التي اعطت الهزيمة، ان هذه المواقف جردت الجماهير من الأسلحة الفكرية والسياسية التي تناضل بها لحماية حركة المقاومة ودفع البلاد على طريق حرب التحرير الشعبية، الطويلة الأمد، المعتمدة على النفس كما ان حركة المقاومة بالتزامها الصمت وعدم طرحها برنامج حرب التحرير

التقرير السياسي الأساسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
المصدر: “الوثائق الفلسطينية العربية لعام 1968، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، مج 4، ص 653 – 671”

الشعبية على الجماهير والذي يبدأ برفع الوعي السياسي العلمي (لأسباب الهزيمة والرد الوطني عليها) ويصر على ضرورة تسليح الشعب وتدريبه وتنظيمه لمتابعة القتال الطويل النفس مع “إسرائيل ومن هم وراء إسرائيل”، ساهمت بإفساح المجال أمام الشعارات الديماغوجية.

         وهكذا، وبحكم سياسات حركة المقاومة الخاطئة، لن تجد عند طرح احتمالات “التسوية السياسية” الا التعاطف الجماهيري العائم والمسطح، الضعيف الفاعلية والثقل، لأنه غير مسلح بوعي أيديولوجي وسياسي وطني، يضع أصابعه على عوامل وقوانين الهزيمة، ولانه غير مسلح بالأسلحة المادية التي تدافع الجماهير بها عن الأرض وحركة المقاومة.

         ان هذه النتائج التي انتهت إليها حركة المقاومة ليست معزولة عن مقدماتها، وكما ان هزيمة حزيران (يونيو) لم تأت بالصدفة، فكذلك ممارسات حركة المقاومة لم تكن بالصدفة بل هي وليدة “أزمة التكوين الأيديولوجي والطبقي والسياسي لكافة فصائل حركة المقاومة”. ان النتائج – أية نتائج – لا يمكن فصلها عن أسبابها، والنتائج المطروحة التي انتهت إليها حركة المقاومة لها مقدماتها وعواملها الأساسية، وهي التي تقدم الإجابة الملموسة على هذه النتائج الملموسة.

نظرة مكثفة على “أزمة حركة المقاومة الراهنة”

         ان حركة التحرر الوطني الفلسطيني (بكافة فصائلها) جزء من حركة التحرر الوطني العربية، بحكم تكوينها الذاتي (الأيديولوجي والطبقي والسياسي)، وبحكم الظروف الموضوعية التي تجد تعبيرها في العلاقة الجدلية اليومية بين معضلات التحرر الوطني ومهمات الثورة الديمقراطية – فلسطينيا وعربيا.

         وأزمة حركة التحرر الوطني الفلسطينية والعربية هي، بالتحديد، أزمة الطبقة البورجوازية الصغيرة التي تحتل مركز القيادة فيها منذ أعقاب الحرب العالمية الثانية، حيث تلمست هذه الطبقة – بحكم ثقافتها ومصالحها المعادية للإقطاعية والاستعمار – فشل الإقطاع والبورجوازية الكبيرة في حل معضلات التحرر الوطني، وتحقيق الاستقلال الاقتصادي والسياسي، وارتماء الأنظمة الإقطاعية – البرجوازية الكبيرة في المنطقة في أحضان الاستعمار والامبريالية. ثم جاءت نكبة 48 لتقدم الأدلة الملموسة الصارمة على خيانة الإقطاعية والبورجوازية الكبيرة (أنظمة واحزابا) لقضايا الوطن، وعجزها المطلق عن حماية البلاد بحكم طبيعتها الطبقية والأيديولوجية، والسياسية، وارتباطها العضوي بالسوق الرأسمالية العالمية والاستعمار القديم والجديد.

         ومنذ النكبة، أخذ دور ومنهج البورجوازية الصغيرة بالتعاظم في قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية والعربية، وتقدمت البورجوازية الصغيرة، بأفقها الطبقي والأيديولوجي، ببرنامج حل معضلات التحرر الوطني كخطوة على طريق تعبئة الطاقات المادية والبشرية لتحرير فلسطين، وقد تركز البرنامج الأساسي على ضرورات اسقاط تحالف الإقطاع ورأس المال والاستعمار (أي معسكر الثورة المضادة) وإقامة تحالف البورجوازية الصغيرة والعمال والفلاحين الفقراء (قوى الشعب العاملة على حد تعبير الميثاق المصري)، باعتبار هذه المسألة المركزية هي نقطة البدء في محاربة الاستعمار الاقتصادي والعسكري والسياسي، وفي فتح الطريق لبناء اقتصاد وطني متحرر بالتصنيع والإصلاح الزراعي كقاعدة مادية تستند اليها جيوش وطنية تحمي البلاد وتخوض معركة تحرير فلسطين.

         وتمكنت البورجوازية الصغيرة، على امتداد عشرين عاما، من قيادة حركة التحرر الوطني الفلسطينية والعربية ضمن برنامجها الطبقي والأيديولوجي والسياسي، حيث تحتل مركز القيادة وتقف على قمة التحولات الجارية في المنطقة (الرسمية والشعبية).

         وقد جاءت هزيمة حزيران (يونيو) لتضع برنامج البورجوازية الصغيرة موضع الاختبار، وتضع قيادة البورجوازية الصغيرة موضع الاختبارات الصعبة في اعطاء الردود على الهزيمة.

         وكما اتضح في سياق التقرير، فقد جاءت الهزيمة لتثبت، بالملموس، فشل برنامج البورجوازية الصغيرة في مجابهة الهجمة الامبريالية الصهيونية، وفي حل معضلات التحرر الوطني في بلد متخلف في هذا العصر – عصر الاستعمار والامبريالية.

         وأمام الاختبارات الصعبة بين اختيار الطريق الفيتنامي والكوبي لمجابهة نتائج حرب حزيران

التقرير السياسي الأساسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
المصدر: “الوثائق الفلسطينية العربية لعام 1968، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، مج 4، ص 653 – 671”

(يونيو) بحرب شعبية تمتزج فيها مهمات الطوابير النظامية بحرب العصابات الشعبية ضمن القانون العام لحروب التحرير الشعبية في مراحله الثلاث: الدفاع، التعادل، الهجوم، لإحراز النصر عبر حرب طويلة الأمد تعتمد على النفس، قاسية ومضنية، وعالية التضحيات على امتداد الأرض الفلسطينية والعربية حيث مواقع ومصالح الامبريالية الصهيونية. أو الاختيار الآخر بانتهاج طريق التراجع المتصل أمام قوى الثورة المضادة، والقبول بقرار مجلس الأمن التصفوي. وقد اختارت البورجوازية الصغيرة الاختيار الذي يتفق مع مصالحها وامتيازاتها الطبقية والأيديولوجية والسياسية، لان الطريق الفيتنامي له ثمنه الباهظ – مجموع امتيازاتها الطبقية والسياسية. وبالطبع فقد باركت أنظمة نكبة 48، أنظمة الإقطاع والبورجوازية الكبيرة هذا الاختيار واندفعت على طريقه. وإذا اتخذ بعضها مواقف المزايدة الديماغوجية فحماية للمصالح الاستعمارية – البترولية خاصة – في بلده، وهو ما يكفي لفضح زيف هذه الديماغوجية القذرة.

         وحركة التحرر الوطني الفلسطينية (بكافة فصائلها وفي اطاراتها البشرية الأساسية) هي من ذات التكوين الأيديولوجي والطبقي والسياسي لحركة التحرر الوطني العربية التي تقودها البورجوازية الصغيرة. وهي، في الوقت ذاته، تمثل حلقة من أضعف حلقات حركة التحرر الوطني في المنطقة بفعل العديد من الخصائص الذاتية والموضوعية، وعلى رأسها ملابسات القضية الفلسطينية، والتجمعات البشرية الواسعة غير الإنتاجية في صفوف شعب فلسطين المتشرد – وليس هنا مجال البحث في هذه الخصائص. وهذا ما سمح للبورجوازية الكبيرة الفلسطينية وبعض العناصر الإقطاعية أن تبقى متمتعة بأوضاع قيادية في الحركة الوطنية، رغم انها قد حكمت على نفسها قبل 48 وبعد 48، بحكم أوضاعها ومصالحها وارتباطاتها الطبقية والسياسية، بالفشل والعجز الكامل عن حماية الوطن وقيادة حركة الكفاح الوطني المسلح وغير المسلح.

         من هنا نلمس ظاهرة اساسية في حركة التحرر الفلسطينية، ففي الوقت الذي تمكنت البورجوازية الصغيرة القائدة لحركة التحرر العربية من تصفية قوى الإقطاع والبورجوازية الكبيرة عن أية مواقع قيادية في الحركة الوطنية وتعرية تحالفات وانحيازات هذه القوى للاستعمار والامبريالية. فقد فشلت البورجوازية الصغيرة الفلسطينية التي أخذت تلعب دورا بارزا في قيادة الحركة الوطنية بعد 48، فشلت في تعرية وإزاحة هذه البورجوازية الكبيرة العاجزة عن ممارسة أي دور وطني حقيقي وبقي لها موطئ قدم توظفه باستمرار بالاستيلاء على قيادة حركة التحرر الوطني أو تطويعها لافاقها ومصالحها الأيديولوجية والسياسية الطبقية – لهذا كله – وعلى امتداد الفترة التالية على حزيران (يونيو) 67، فقد تمكن اليمين الرجعي الفلسطيني، مدعوما من اليمين الرجعي العربي، أن يتمدد على جبهة حركة المقاومة في ظل شعارات ديماغوجية براقة ليقفز على رأس حركة المقاومة ويقودها ضمن آفاقه الفكرية والسياسية التي تخدم في التحليل الأخير مصالحه ومصالح الرجعية العربية، وتطمس معالم طريق “الخلاص الوطني الفلسطيني والعربي من الاحتلال الامبريالي- الإسرائيلي. وهذه السياسات ذاتها لا تخدم، في التحليل الأخير والنتيجة، حركة المقاومة، بل تحولها إلى مجرد ورقة تكتيكية ضاغطة على الجماهير العربية من جهة لكبح اندفاعتها الوطنية الثورية، وعلى معسكر الامبريالية – الصهيونية من جهة أخرى لتقليل حجم التنازلات وصولا الى تسوية قرار مجلس الأمن التصفوي والذي يتهدد مجمل القضية الفلسطينية بالتصفية. ان الإطارات البورجوازية الصغيرة التي تقود فصائل حركة المقاومة، بحكم مواقفها الأيديولوجية والسياسية المتذبذبة والمترددة، وبحكم بعدها عن الرؤيا السياسية الوطنية الجذرية للوقائع والأحداث، وبحكم سيادة أيديولوجية اليمين الرجعي في قطاع هام منها، فشلت من انتشال نفسها، ومعها حركة المقاومة، من بحر الممارسات الخاطئة التي قادت اليها حركة المقاومة.

         وبرغم صور الكفاح الرائعة، وارتفاع الروح المعنوية لدى أبناء فلسطين والأمة العربية، فان قيادات حركة المقاومة البورجوازية الصغيرة والكبيرة قد وضعت حركة المقاومة في مأزق تاريخي صارم حولها إلى ورقة تكتيكية ضاغطة تنتظر مصيرها كجزء لا يتجزأ من التسوية السياسية المنتظرة!

طريق الخلاص الوطني

         ان حركة الكفاح المسلح ستفرز، بالضرورة، عملية جدل أيديولوجية وسياسية تتكلم بصوت مسموع في

التقرير السياسي الأساسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
المصدر: “الوثائق الفلسطينية العربية لعام 1968، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، ص 4، ص 653 – 671”

صفوف حركة المقاومة وخارجها، تطرح من خلالها العناصر الأكثر ثورية وتقدما ضرورات تجاوز المرحلة الخطيرة الراهنة، بالاطلال على حركة مقاومة جذرية نامية، تتعامل مع الجماهير بصراحة ومسؤولية بعيدا عن وسائل التهريج والديماغوجية. حركة مقاومة تضع تجربة حركة التحرر الوطني الفلسطينية والعربية (مثلا ثورة 36، نكبة 48، هزيمة 67) موضع المحاكمة النقدية للكشف عن قوانين الفشل الأساسية وطرح قوانين النصر الأساسية، وطرح برنامج للخلاص الوطني يرفض البرامج المطروحة في المنطقة العربية والتي عادت بنا إلى برامج قبل 5 حزيران (يونيو) من جديد “الرهان على الجيوش النظامية، الحرب النظامية الخاطفة، اقتصاد استهلاكي أو اقتصاد مرتبط بالاقتصاد الرأسمالي، تجميد المعركة مع من هم وراء إسرائيل”، وحصر المعركة على حدود الأرض المحتلة بعد 5 حزيران (يونيو)، الأخذ بقرار مجلس الأمن التآمري كنتيجة منطقية لهذه البرامج التي سبق لها وأعطت هزيمة حزيران (يونيو).

         ان تجربة حركة التحرر الوطني في بلادنا (فلسطين والبلاد العربية)، وتجربة حركات التحرر الوطني في البلدان المتخلفة (آسية وأفريقية واميركة اللاتينية) تثبت، بالوقائع الملموسة، ان طريق الخلاص الوطني وتحرير البلاد وحل معضلات التحرر الوطني، يرتبط ويبدأ بضرورات التسلح “بالأسلحة الثورية” القادرة في البلدان المتخلفة على الحاق الهزيمة بالبلدان الاستعمارية المتقدمة في آلة الحرب، والتكنيك، والفن العسكري.

         ان هذه التجارب تعلمنا – وفي مقدمتها تجربة خمسين عاما من الفشل لحركة التحرر الوطني الفلسطيني، وتجربة فيتنام وكوبة الناجحة – ان طريق الخلاص الوطني يبدأ ويرتبط:
         1 – بأيديولوجية ثورية معادية للاستعمار والصهيونية والرجعية والتخلف، أيديولوجية ثورية علمية (أيديولوجية البروليتاريا)، تتسلح بها الجماهير وتعتمد بالأساس على الطبقات الأكثر ثورية وجذرية في المجتمع، الطبقات التي لا مصلحة لها في مهادنة الاستعمار والرجعية والصهيونية، ولا مصلحة لها في التراجع بخطوات الى الوراء، الطبقات التي كل مصلحتها في النضال الدامي العريض، ولن تخسر شيئا بل ستكسب كل شيء: الوطن والأرض والاستقلال السياسي والاقتصادي الحقيقي.

         ان تجربة بلادنا، وتجربة التحرر الوطني في آسية وأفريقية وأميركة اللاتينية، أثبتت فشل وعجز أيديولوجية الإقطاع عن قيادة معركة التحرر الوطني، وأثبتت عجز أيديولوجية البورجوازية الكبيرة، فهذه الأيديولوجية البورجوازية الكبيرة تقود بلادها إلى الارتماء في أحضان الاستعمار والامبريالية.

         كما ان تجربة بلادنا، وكل شعوب الأرض الفقيرة أثبتت ان أيديولوجية البورجوازية الصغيرة غير قادرة وغير مؤهلة لحل معضلات التحرر الوطني والانحياز الى جبهة الكفاح الطويل الأمد والمرير لدحر الامبريالية والقوى العميلة المتحالفة معها.

         ان طريق الخلاص الوطني يبدأ بالتسلح بسلاح الأفكار الثورية، أفكار الطبقات الثورية في أي مجتمع. أفكار العمال والفلاحين الفقراء، الذين يخوض أبناؤهم اليوم المقاومة المسلحة على أرض فلسطين.

         2 – رفع الوعي السياسي الوطني الجذري لدى الجماهير بعيدا عن التهريج والديماغوجية. فشعبنا يقابل عدوا عصريا مدعوما ومحتضنا من طرف أقوى الدول الامبريالية، الولايات المتحدة الأميركية. والوعي السياسي العلمي، الذي يعتمد “التحليل الملموس لواقعنا وواقع العدو الملموس”، يجب ان يكون القاعدة الأساسية في علاقة حركة المقاومة مع الجماهير، والشارع. والتوعية السياسية الوطنية تبدأ بالكشف عن عوامل ومقدمات فشل حركة التحرر الوطني الفلسطينية والعربية التي تشكل هزيمة ثورة 36 على يد الرجعية الفلسطينيـة والعربية، ونكبة 48، وهزيمة 67، نماذجها البارزة وبالمقابل تطرح برنامج الخلاص الوطني والتحرير.

         3 – رفض برامج الهزيمة وقرار مجلس الأمن السيئ الصيت، والإصرار علي طرح برنامج حرب التحرير الشعبية بتسليح وتنظيم الشعب في كتائب ميليشيا شعبية، لتكون حرب الشعب كله، بطوابيره النظامية والشعبية على جبهة عريضة تتناول إسرائيل “ومن هم وراء إسرائيل” (تتناول المصالح والمواقع الاستعمارية + إسرائيل + القوى العميلة والمتحالفة مع الاستعمار والحامية لمصالحه في بلادنا).

التقرير السياسي الأساسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
المصدر: “الوثائق الفلسطينية العربية لعام 1968، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، مج 4، ص 653 – 671”

         ان الحرب الطويلة الأمد المعتمدة على الذات، المجندة لها كل الطاقات – اقتصاد وحياة حرب – المسلحة بالوعي الأيديولوجي والسياسي البروليتاري، هي طريق الخلاص والنصر الوحيدة للتفوق على التفوق العلمي والتكني الإسرائيلي الامبريالي الذي يعتمد استراتيجية الحرب القصيرة الأمد، حرب الضربات السريعة وتحقيق النصر السريع.

         ان تفتيت قوى الثورة المضادة، وتحطيم معنويات قواتها، وتدمير اقتصادها لن يكون الا بحرب طويلة الأمد.

         4 – ان الطموح لبرنامج خلاص وطني يرفض التراجع ويندفع على جبهة عريضة لن يكون الا بتغذية حركة الجدل الجارية في صفوف حركة المقاومة وحركة التحرر الوطني العربية لتفرز اطارات طليعية، مسلحة بأيديولوجية علمية ثورية، أيديولوجية بروليتارية ترفض الاستسلام لقرار مجلس الأمن، وتدفع الجماهير المنظمة على طريق الحرب الطويلة الأمد المعتمدة على الذات.

         وبمعزل عن هذه العملية الجدلية، ستبقى حركة المقاومة أسيرة الممارسات الخاطئة الراهنة التي جعلت من حركة المقاومة الباسلة ورقة تكتيكية ضاغطة بيد الأوضاع العربية الراهنة.

         ان طريق الخلاص الوطني يتطلب ارادات ذاتية جبارة، تنبثق من صفوف حركة المقاومة، ترفض كل ما هو قائم وتدفع إلى الطريق الجديد، طريق تحويل حركة المقاومة إلى حركة جماهيرية منظمة، مسلحة بأسلحة أيديولوجية وسياسية ومادية وطنية جذرية في ظل قيادة طلائع القوى المقاتلة التي تمتلك وعيا أيديولوجيا وسياسيا بروليتاريا معاديا إسرائيل والاستعمار وحلفائه على امتداد الأرض العربية.

         طليعة بروليتارية الانحياز والالتزام تحقق الوحدة الوطنية لكافة الطبقات والقوى السياسية المعادية للثورة المضادة، والملتزمة ببرنامج تسليح الشعب والحرب الطويلة الأمد في ظل قيادة القوى المقاتلة “الثورية” في جبهة تحرير وطنية عريضة.

         ان روح المقاومة تنتشر بين صفوف شعب فلسطين وهي بحاجة إلى الطليعة التي تقودها على درب الخلاص الوطني، ومثل هذه الطليعة – عبر تحليل ونقد تجربة حركة التحرر الوطني الفلسطينية لم تولد بعد.

         وعلى العناصر الفتية المسلحة بوعي أيديولوجي علمي في صفوف حركة المقاومة وفي صفوف شعب فلسطين ان تقود حركة الجدل لإفراز مثل هذه الطليعة التي تقود الشعب بكافة طبقاته وقواه السياسية الوطنية على طريق النصر، طريق الحرب الطويلة الأمد.


 

Scroll to Top