النص الكامل للبيان الذي ألقاه وزير المستعمرات في مجلس العموم

النص الكامل للبيان الذي ألقاه وزير المستعمرات في مجلس العموم في 24 نوفمبر 1938
“ملف وثائق فلسطين من عام 637 إلى عام 1949 وزارة الارشاد القومي، ج 1، ص 669 – 675”

النص الكامل للبيان الذى القاه وزير المستعمرات
في مجلس العموم بتاريخ 24 تشرين الثانى سنة 1938

       أود أن أستهل بيانى اليوم بالاعراب عن شكرى لحضرات الأعضاء المحترمين في كافة ارجاء المجلس لما اظهروه من روح الصبر وضبط النفس وهم يرقبون حالة فلسطين المحزنة تزداد سوء شهرا بعد شهر. اننى أعلم أنه كان من السهل عليهم ان يضجروا وزير المستعمرات في وقت الاسئلة او ان يلفتوا النظر بحدة وغضب الى بعض وجوه الحالة بتقديم اقتراحات ولكن الاعضاء المحترمين احجموا عن اتيان هذه الامور ولم يكن احجامهم هذا مبعثا عن عدم اهتمامهم بما هو في فلسطين. فالمجلس يقدر المسئوليات المترتبة عليه نحو فلسطين كما يقدر المسئوليات المترتبة عليه نحو سائر انحاء العالم ولكنى أظن ان وقوف حضرات الاعضاء المحترمين هذا الموقف انما يرجع الى تقديرهم للمصاعب الخاصة والحالة الدقيقة التى نجابهها في تلك البلاد وانى لأرجو أن يكون في وسعى ان اناشد حضرات الاعضاء في اصيل هذا اليوم ونحن على أبواب الشروع في المحادثات مع ممثلى العرب واليهود في لندن أن يسيروا في هذه المناقشة سيرا مقرونا بالحكمة بحيث لا تخرج كلمة من أفواههم من شأنها أن تضير الآمال المعقودة على نجاح هذه المباحثات والخروج منها في النهاية باتفاق عربى – يهودى.

       لقد كان من المتعذر خلال الأشهر الماضية بذل جهود انشائية لتهدئة الحالة في فلسطين.

       وهذا مما يؤسف له كل الأسف ولكنه كان أمرا لا مناص منه. فقد كان علينا ان ننتظر تقرير لجنة وودهيد ولذلك حصرنا كل اهتمامنا في بذل الجهود المادية لاعادة الأمن واالنظام الى تلك البلاد وقد حدث خلال أيام البطالة في الصيف التى لم يكن للعمال ما يشغلهم فيها في الحقول أن تمت حملة الاغتيال والعنف التى أشهرها الارهابيون فأصبحت بمثابة ثورة عربية منظمة واسعة النطاق ضد السلطة البريطانية وتقوم القوات العسكرية وقوات البوليس الكبيرة الموجودة الآن تحت تصرف الحكومة بتوطيد سلطة الحكومة فى جميع أنحاء البلاد بثبات وحزم. فقد أخرج الثوار منذ بضعة أسابيع من مدينة القدس القديمة وأخليت المدينة منهم. وأعيد توطيد سلطات الادارة في مدينة يافا واحتلت جيوشنا أسوار مدينة اريحا ثانية دون نفخ الابواق وأصبحت مدينة غزة ثانية تحت سيطرة الحكومة وفي هذا الاسبوع أخرجت العناصر المعادية من بئر سبع. فعملية ارجاع الأمن والنظام تسير في جميع أنحاء البلاد سيرا مقرونا بالثبات والمشقة.

       اننا نعلم جميعا أن بعض الدعاة من ذوى الاغراض قد أخذوا يكيلون التهم

 

 

النص الكامل للبيان الذي ألقاه وزير المستعمرات في مجلس العموم في 24 نوفمبر 1938
“ملف وثائق فلسطين من عام 637 إلى عام 1949، وزارة الارشاد القومي، ج 1، ص 669 – 675”

الشنيعة جزافا لجنودنا واننى أطلع على الشىء الكثير من هذا القبيل في وزارة المستعمرات ولكن لم يسبق لى قط أن وقفت على بينة تثبت هذه التهم بل على العكس من ذلك ان العالم بأجمعه بعلم أن احتلال مدينة القدس القديمة الذى جرى منذ بضعة أسابيع كان مثالا للطريقة التى يستطيع فيها الجنود البريطانيون أن يقوموا بمنتهى النجاح بعملية عسكرية دقيقة في وسط جماعة من الاهلين المدنيين بصورة مستوفية للمبادىء الانسانية بأكملها.

       ولكن المشكلة الحقيقية في فلسطين ليست مشكلة عسكرية بل هى مشكلة سياسية. ان في استطاعة جيوشنا أن تعيد النظام الى نصابه ولكنها لن تستطيع ان توطد اركان السلام. فذلك أمر يترتب على الحكومة وعلى هذا المجلس الاضطلاع به. ان بسط المشكلة القائمة في فلسطين هو أمر في غاية السهولة وقد اتت لجنة بيل على بيانها بصورة باهرة في تقريرها ولا حاجة لتغيير أية كلمة أو حرف من تحليل المعضلة كما ورد في تلك الوثيقة القيمة. أن فلسطين بلاد صغيرة ولكنها تعد عظيمة القدر من الناحية الروحية. فالصبغة الروحية التى تتصف بها لا تدانيها فيها أية بلاد أخرى في العالم. فهى تضم بعض الاماكن المقدسة للديانات العالمية الثلاث العظمى. ولكنها في غاية من الصغر من حيث المساحة وان كانت تربتها خصبة وتعطى أثمارا وافرة فان أكثر أراضيها صخرية أو جبلية ومعظمها صحراوات مجدبه. تلك هى حالة هذا المسرح الصغير التى تمثل عليه اليوم فاجعة من أعظم الفواجع. والميدان يشتمل على فريقين متنازعين – فلنبدأ باليهود أولا. ان فلسطين كانت موطنا لهم منذ الفى سنة ولكنهم منذ ذلك الزمن فرقوا وشتتوا في جميع أنحاء المعمورة. انهم شعب لا بلاد له ولكن كثيرا منهم استحث خطاه خلال السنوات العشرين الماضية راجعا الى فلسطين مستندا الى أحكام صك الانتداب الذى ايدته أكثر من خمسين دولة وعهد فيه الى بريطانيا العظمى بادارة البلاد. ولست اعتقد ان في وسع أى منصف أن يدعى أن بريطانيا العظمى لم تقم خلال هذه السنوات – العشرين بما تقتضيه عليها التزاماتها من تسهيل هجرة اليهود الى فلسطين فمنذ سنة 1922 دخل فلسطين ما يزيد على ربع مليون يهودي واستوطنوها وكانت أعمالهم فيها موجبة للاعجاب فقد حولوا كثبات الرمال الى بساتين للبرتقال وساروا في زراعتهم ومستعمراتهم شوطا بعيدا حتى ابلغوها الاراضى الجرداء الواقعة على الحدود. وبنوا مدينة جديدة تضم نحو 140 ألف نسمة في مكان لم يكن فيما مضى سوى شاطىء مقفر. ولا يستطيع الانسان أن يتكهن عن المدى الذى كان من الممكن ان تبلغه أعمالهم لو كانت فلسطين خالية من السكان وسلمت اليهم بكامله. ان اليهود الموجودين فى فلسطين يقيمون فيها بناء على حق وليس كمنة. أما الآن وقد أصبحوا غرضة للاضطهاد في أوربا الوسطى فان رغبتهم في العودة الى موطنهم الحاص قد تضاعفت مائة مرة عن ذي قبل. ولم تبلغ مأساة اى شعب من الشعوب التى لا وطن لها ما بلغته مأساة اليهود في هذا الاسبوع كما ان عطف مواطنينا وتلهفهم لصنع كل ما في وسعهم لمساعدة اليهود المضطهدين لم تبلغ قط مثل ما بلغته اليوم. ولكنى آمل ألا ندع سبيلا لشعور الاستقطاع الذى يملأ نفوسنا من جراء الكارثة التى جر اليها هذا الشعب فنمكن ذلك الشعور من التأثير على حكمنا الهادىء المنصف على المشكلة الصعبة في فلسطين اليوم.

       وأرانى مضطرا الى الادلاء بكلمة على سبيل التحذير فاننا عندما وعدنا بتسهيل انشاء وطن قومى لليهود في فلسطين لم نكن نتوقع قط ان يحدث هذا الاضطهاد

 

النص الكامل للبيان الذي ألقاه وزير المستعمرات في مجلس العموم في 24 نوفمبر 1938
“ملف وثائق فلسطين عام 637 إلى عام 1949، وزارة الارشاد القومي، ج 1، ص 669 – 675”

الشديد في أوربا اننا لم نقطع على أنفسنا عهدا يجعل تلك البلاد موطنا لكل شخص يود أن ينجو من تلك الكارثة العظمى ولو أن فلسطين كانت خالية من شعب آخر بالمرة لما كان في استطاعة تربتها الفقيرة ان تعيل أكثر من جزء صغير من مجموع اليهود الذين يودون الفرار من أوربا. ان مسألة اللاجئين في أوربا الوسطى لا يمكن. تسويتها على حساب فلسطين بل يجب أن تحل في ميدان أوسع كثيرا من ذلك الميدان. وفي استطاعة فلسطين أن تساهم بالطبع في هذا المضمار وهى تقوم بنصيبها الآن فالمهاجرون اليهود يفدون اليها في هذه الأيام اسبوعا بعد اسبوع بمعدل الف مهاجر في الشهر على الرغم من الاضطرابات القائمة فيها. غير ان الوكالة اليهودية يهمها بطبيعة الحال نظرا للحوادث الاخيرة ان تزداد الهجرة الى فلسطين ازديادا عظيما. وقد قابلت يوم اثنين مندوبين عن الوكالة المذكورة باحثا في هذا الأمر فطلبت اليهما ان يقدما الى مقترحاتهما الكاملة مزودة بالتفاصيل الدقيقة. وفي صباح هذا اليوم استلمت تلك المقترحات وستكون بالطبع موضع اهتمامى الدقيق كما اننى سأستنير برأى المندوب السامى بشأنها. غير اننى أرى لزاما على ان اقول هذه الكلمة المخلصة على كل حال ان الحكومة كثيرا ما اتهمت بأنها لا تسير على نور خطة سياسية معينة في فلسطين أو بأنها تضع سياسة لها ثم لا تلبث أن تحيد عنها وتغيرها.

        لقد أعلنت الحكومة منذ مدة قليلة المرحلة التالية التى قر رأيها على اتباعها في سياستها وهذه السياسة تقوم على اجراء محادثات مع العرب واليهود في لندن ونحن عازمون على السير! في عقد هذا المؤتمر. ولا يسعنا الآن ان نفعل شيئا من شأنه ان يضير الآمال المعقودة على انتهاء تلك المحادثات بالنجاح والتوفيق فمن خير اليهود أنفسهم أن تكون السياسة المقبلة في فلسطين مبنية ما أمكن على اتفاق واسع المدى.

        أما الشعب الآخر الذى يشمله هذا النزاع المرير في فلسطين فهو الشعب العربى. لقد عاش العرب في تلك البلاد منذ قرون عديدة ولم يؤخذ رأيهم عندما صدر وعد بلفور ولا عندما وضعت صيغة صك الانتداب. وقد كانوا خلال السنوات العشرين التى تلت الحرب الكبرى يرقبون هذا الاحتجاج السلمى الذى يقوم به شعب غريب ويرفعون عقيرتهم بالاحتجاج الصاخب بين الآن والآخر فقد شاهدوا تسرب أراضيهم من ايديهم وانتشار المستعمرات اليهودية انتشارا مطرد الازدياد، في صميم البلاد. واضطروا الى الاعتراف بتفوق ذلك الشعب عليهم في النشاط والمهارة والثروة. فاخذت تساورهم المخاوف. ففى سنة 1933 دخل فلسطين 30.000 يهودى وفي سنة 1934 دخلها 42.000 يهودى ثم بلغ عدد من دخلها منهم سنة 1935: 61 ألف شخص فتساءل العرب في عجب متى تقف هذه الهجرة الواسعة النطاق وهل ستقف يوما ما عند حد أم تبقى مستمرة بلا نهاية؟ حتى أصبحوا يخشون أن يئول مصيرهم في بلاد آبائهم وأجدادهم الى الخضوع لسيطرة هذا الشعب الجدبد النشيط من النواحى الاقتصادية والسياسية والتجارية.

        فلو كنت انا عربيا لتولانى الذعر أيضا. واذا كان لنا أن نصل يوما الى ادراك كنه هذه المشكلة وقدر لنا أن نقوم بنصيبنا في ايجاد حل موفق لها وجب علينا أن نضع أنفسنا لا في موضع اليهود فحسب بل موضع العرب أيضا.

        اننى أعلم أن عددا كبيرا من الناس يعتبرون هذا الثوران العربى مجرد احتجاج تقوم به جماعة من العصابات وانه لصحيح ان في عداد أولئك العرب الذين

 

 

النص الكامل للبيان الذي ألقاه وزير المستعمرات في مجلس العموم في 24 نوفمبر 1938
“ملف وثائق فلسطين من عام 637 إلى عام 1949، وزارة الارشاد القومي، ج1، ص 669 – 675”

اشتركوا في الاضطراب برغبة طائفة ممن لا يحجم عن ارتكاب أسوأ الجرائم فالمذبحة التى مات فيها الابرياء في طبريا وما قاموا به في عدد من الميادين التعسة الأخرى قد لوثت قضيتهم. ومن الحق ان يقال أيضا ان كثيرين من المتصلين بهؤلاء انما أتوا ذلك بفعل الارهاب. ولكن في الحركة العربية ما يفوق ذلك بكثير. وانى أرى أن من واجب هذا المجلس المعروف بقدرته على تفهم الشعوب الأخرى ان يقدر ان الكثيرين من المشتغلين بالحركة العربية الفلسطينية انما يشتغلون فيها بحافز من الشعور الوطنى الصادق. ومهما بلغ بهم الخطأ ومهما بلغ بهم الضلال في الاسترشاد فان الكثيرين منهم قد اضطروا الى ركوب المخاطر والمجازفة بأرواحهم في سبيل بلادهم. (اننى أعلم أن الرواية لا تقف عند هذا الحد فهنالك أشياء أخرى كثيرة لابد من ذكرها أن اردنا أن نأتى على وصف تام وعادل للحالة. فهنالك سلسلة من الحقائق لها على الخصوص مكان كبير من الأهمية لا أرى مندوحة عن ذكرها. فان أولئك الذين فكروا – قبل عشرين سنة – في امكان تسهيل انشاء وطن قومى لليهود كانت تحدوهم فكرة سامية وقد تحققت هذه الفكره في هذه السنوات العشرين الأولى فبرزت للعيان على صورة عمل انشائى باهر غير اننى أسائل نفسى في عجب أحيانا: هل قيض لجميع أولئك الذين وضعوا أسس ذلك العمل الانشائى العظيم أن يعلموا الحالة على حقيقتها في ذلك الزمن أى في سنى 1917، 1918، 1919. كما اتساءل أيضا في عجب هل كان هؤلاء يدرون حينذاك انه بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط يقيم ما يزيد على 600.000 نسمة من العرب؟ أنا على ثقة من انهم لم يكونوا ليعلموا على كل حال ان السكان العرب سيزدادون ازديادا سريعا بسبب اليهود وبسبب قدومهم الى البلاد. فقد جاء اليهود وجاءوا معهم بالمال واشغال العمران التى زادت في أسباب المعيشة والخدمات الصحية الحديثة التى لم تقتصر منافعها على اليهود فحسب بل تجاوزتهم الى العرب أيضا تفسح المجال لافراد الناس حتى يعمروا طويلا ويعيشوا في طمأنينة وازداد عدد السكان العرب في فلسطين ازديادا سريعا منذ سنة 1922 اذ كانوا يبلغون 600.000 نسمه فأصبحوا اليوم 990.000 نسمة وهذه الزيادة لا ترجع الى هجرة الاشخاص من خارج البلاد بل تعزى كلها تقريبا الى النمو الطبيعى. وقد يكون من واجبى أن أضيف الى ذلك ان الحسابات التقديرية تدل على ان مجموع السكان العرب في فلسطين البالغ عددهم الآن 990.000 سيكون مليونا ونصف مليون خلال السنوات العشرين القادمة.

       ان هذه السلسلة الباهرة الهامة من الحقائق تؤدى بنا الى تكوين فكرتين: فمن شأنها بادىء ذى بدء أن تؤدى الى قلب ما يقدر لعدد اليهود الذين يمكنهم أن يستوطنوا فلسطين دون الحاق ضير بحقوق العرب ووضعهم. ولكن لهذه الحالة كما قلت ناحيتين فالناحية الأخرى منها هى انه ليس بمستطاع للعرب أن يقولوا ان اليهود يجلونهم عن بلادهم وانى اعتقد انه لو لم يدخل فلسطين يهودى واحد بعد سنة 1918 لكان عدد السكان العرب لا يزال حول 600.000 نسمة وهو الرقم الذى كان يستقر عليه عددهم في عهد الحكم التركى فبسبب مجىء اليهود وما جلبوه من الخدمات الصحية الحديثة والفوائد الأخرى يعيش الآن فريق من الرجال والنساء لولاها لكانوا فى عداد الأموات.

       وبسبب هذه الخدمات أيضا أخذ أطفالهم يكبرون وتقوى أجسامهم ولولاها لما تنشق البعض منهم نسيم الحياة . لم تكن فائدة وعد بلفور مقصورة على اليهود فان

النص الكامل للبيان الذي ألقاه وزير المستعمرات في مجلس العموم في 24 نوفمبر 1938
“ملف وثائق فلسطين من عام 637 إلى عام 1949، وزارة الارشاد القومي، ج 1، ص 669 – 675”

العرب جنوا منه فائدة كبرى فلعرب فلسطين ان ينكروا ذلك ما شاءوا ولكنهم جنوا بطبيعة الحال فائدة جليلة من وعد بلفور. وانى أعلم أن لا فائدة ترجى من الاصرار على اقناع العرب بهذه الحجة فكلهم يعيرونها آذانا صماء وعيونهم لا تبصر مشهد التحسن التدريجى الذى يتناول حياة شعبهم. لانهم يفكرون في شيء آخر. انهم يفكرون في حريتهم ويخشون انه اذا استمرت الحال على هذا المنوال فانهم سيخضعون في النهاية من الوجهة السياسية لسيطرة أبناء الوطن القومى اليهودى النشطين الجادين المستمرين في الازدياد.

       اننى أقول ان من الواجب علينا نحن الشعب البريطانى أن يكون آخر شعب في العالم لا يدرك شعور العرب بهذا الشأن ذلك اننا نحن انفسنا لن نحجم عن التضحية بالفوائد المادية حين نرى حريتنا مهددة. انه لا يسعنا ان نضع اليهود تحت سيطرة العرب في فلسطين ولكننا ما لم نستطع أن نزيل المخاوف التى تساور العرب من ان يصبحوا تحت سيطرة اليهود فسيتحتم علينا ان نجابه شعبا مرتابا معاديا ينتشر في منطقة واسعة الأرجاء من الشرق الأدنى وان نضطر الى ابقاء قسم كبير من جيشنا في فلسطين الى أجل غير محدود. إن علينا التزامين خطيرين نحو الشعبين في فلسطين فنحن ملزمون بتسهيل هجرة اليهود الى فلسطين في أحوال ملائمة وتشجيع حق اليهود في الأراضي من الجهة الواحدة كما أننا ملزمون بأن نؤمن عدم الحاق الضرر بحقوق العرب ووضعهم من الجهة الثانية. فكيف يمكننا التوفيق بين هذين الالتزامين بصورة عادلة سليمة ؟ هذه هى المشكلة التى لابد لنا من حلها. وهذا هو اللغز الذى يجب علينا أن نحله ونجد جوابا له. ان لجنة بيل قد أوصت بتقسيم البلاد شافعة توصيتها بحجة منطقية وأن يفصل العرب عن اليهود لدرجة ما وأن تحقق رغبة كل منهما في الحكم الذاتى في أنحاء مختلفة من فلسطين مع ابقاء الأماكن المقدسة تحت الانتداب كمنطقة خاصة وهذا المجلس لم يلزم نفسه قط باقرار تلك السياسة ولكن الحكومة قد قبلت بها مبدئيا باعتبارها خير حل يرجى منه الخروج من ذلك المأزق. ولكنه كان لابد من اجراء تحقيق آخر للتثبت من امكان تطبيق هذا المبدأ فأوفدت لجنة وودهيد الى فلسطين للقيام بذلك التحقيق ومكثت هذه اللجنة في القدس مدة ثلاثة أشهر معرضة للأخطار وجابت البلاد من أقصاها الى أقصاها يصحبها دوما حرس مسلح وقد كانت قامت بما وكل إليها بشجاعة وبمنتهى الدقة والكفاءة. وقبل مدة وجيزة قدمت اللجنة تقريرها فتبين منه بوضوح أن التقسيم كما اقترحته لجنة بيل هو غير عملى كما تبين منه أيضا أنه لو أردنا أن نقسم فلسطين الى دولة يهودية ودولة عربية ومنطقة انتداب لانجلت ميزانية الدولة اليهودية عن وفر عظيم في كل سنة، بينما ميزانية الدولة العربية وميزانية الانتداب ستنجلى كل منهما عن عجز كبير عاما بعد عام. وقد قالت اللجنة فى تقريرها أن شروط اختصاصها لا تبيح لها أن توصى بحدود للمناطق المقترحة من شأنها أن تسفر عن أمل معقول بامكان انشاء دولة عربية وأخرى يهودية تكون كل منهما قادرة على سد نفقاتها بذاتها. وانى أعتقد أن ذلك لمما يوجب الثناء على أعمال اليهود باعتبار أن الذين يعيشون وراء المستعمرات اليهودية لن يستطيعوا أن يحافظوا على نظام الحكم وعلى الخدمات الاجتماعية التى اعتادوها دون مساعدة اليهود المستمرة. فهذه الحالة أيضا تقضى قضاء مبرما على الاقتراح القائل بتقسيم فلسطين الى دولتين ذواتى سيادة. ولذلك لم تتوان حكومة جلالته في اقرار هذا الأمر. فقر رأيها. أن لا يعطى اليهود أى قسم من فلسطين لمد سيطرتهم عليه وأن لا يعطى أى قسم آخر للعرب لمد سيطرتهم عليه .. ولذلك

 النص الكامل للبيان الذي ألقاه وزير المستعمرات في مجلس العموم في 24 نوفمبر 1938
“ملف وثائق فلسطين من عام 637 إلى عام 1949، وزارة الارشاد القومي، ج 1، ص 669 – 675”

أعلنت الحكومة بأنها ستواصل الاضطلاع بمسئولياتها التى أشار اليها صديقى النبيل مستر تشرشل عندما قابلته في رواق البرلمان عقب اسناد وزارة المستعمرات الى فلقد قال لى مرة اذ صادفنى أصيل ذات يوم “لا تقسيم بل ثبات” غير أنه. يترتب علينا أن نجد وسائل أخرى لتلافى ما تتطلبه الحالة غير المرضية القائمة في فلسطين ولقد لقيت مساعدة كبرى من عدد من المراسلين لدى بحثى هذه المعضلة فعشرات الرسائل ترد على وفي كثير منها حلول لهذا المشكل. ولكنى أذكر اننى تلقيت رسالة تقترح نفس الاقتراحات التى تقترحها أية رسالة أخرى. وكثير من الرسائل لم تتضمن أى اقتراح بالمرة بل ان مرسليها كانوا يصرخون يائسين “هل ثمة حل لهذه المعضلة المخيفة؟” أجل هنالك حل ولكنى لا أعتقد أن تبعة ذلك الحل يجب أن تلقى على عاتق الحكومة وحدها بل ينبغى أيضا أن تلقى على الفريقين الآخرين ذوى الشأن في هذه المسألة أى العرب واليهود. فعلى كل منهما أن تساهم في هذا السبيل وعلى كل منهما أن يبدى شيئا من التسامح نحو الآخر. فاذا ما أظهروا رغبة في اجراء ذلك فعندئذ يعود السلام الى البلاد ويعم الرفاء كلا الشعبين في فلسطين. وانى أعلم أن من الصعوبة بمكان كبير أن تخف حدة المرارة التى نمت بطبيعة الحال في كل جانب من الجانبين خلال الشهور التى تناولتها أعمال العنف وسفكت فيها الدماء.

       وقد يخيل للمرء أن من المتعذر في الوقت الحاضر الوصول الى أى اتفاق – ولكن الحكومة تعلق أملا كبيرا على تفاهم العرب واليهود الى درجة تحفزها لبذل الجهود الجبارة للوصول الى ذلك التفاهم. انه ليس من المتعذر على الأفراد العاديين من الشعبين العربى واليهودى أن يعيشا معا مرتضين جنبا الى جنب في فلسطين، فكثير منهم قد فعل ذلك في أماكن عديدة في فلسطين حتى خلال الأوقات العصيبة هذه.

       وليس من الصعب على زعماء العرب واليهود أن يصلوا الى اتفاق فيما بينهم، فلقد مرت قبل عشرين عاما برهة ظهر فيها أن مثل هذا الاتفاق لم يكن ممكنا فحسب بل في حيز الوجود. فلقد عبر عندئذ الدكتور وايزمان بالنيابة عن الجمعية الصهيونية نهر الأردن وقابل الأمير فيصل في سرادقه المضروب في الصحراء يحيط به مضيفوه العرب وبعد أشهر وقع هذان الرجلان اتفاقا يتعلق بفلسطين. فالى مثل هذه الصلة بين العرب واليهود نود أن نعود الآن. ولذلك اقترحت الحكومة اجراء المباحثات في لندن وستجرى هذه المباحثات بادىء ذى بدء بين الحكومة وممثلى العرب من جهة، وبينها وبين ممثلى اليهود من جهة ثانية ولكننا نأمل أن تتطور هذه المحادثات بعد أمد قليل الى مباحثات تجرى بين الفرقاء الثلاثة مجتمعين حول مائدة مشتركة. ان الحكومة ستدخل المباحثات بطبيعة الحال مرتبطة بالالتزامات المترتبة عليها بموجب صك الانتداب نحو العرب ونحو اليهود ونحو البرلمان ونحو الولايات المتحدة بأمريكا.

       ولكننا لن نحاول أن نمنع ممثلى العرب أو ممثلى اليهود من الادلاء بحججهم الموجبة لتغيير صك الانتداب، وستكون المباحثات شاملة ومقرونة بمنتهى الصراحة واننى متأكد من أن المجلس لن يترقب منى ونحن لا نزال في هذا الموقف أن أزيد على ما قلت فيما يتعلق بالسياسة التى ستنتهجها الحكومة خلال هذه المباحثات وآمل أن تتاح لنا فرصة الشروع في هذه المباحثات بلندن خلال الأسابيع القليلة المقبلة. فاذا تعذر الشروع فيها قبل عيد الميلاد فالأمل أن يشرع فيها في أوائل شهر كانون الثانى على الأكثر اذ لا مندوحة من انهاء حالة عدم الاستقرار هذه بوجه السرعة الممكنة ومن

 النص الكامل للبيان الذي ألقاه وزير المستعمرات في مجلس العموم في 24 نوفمبر 1938
“ملف وثائق فلسطين من عام 637 إلى عام 1949، وزارة الارشاد القومي، ج 1، ص 669 – 675”

الأهمية بمكان كبير اقرار السياسة التى ستتبع واعلانها بصورة جلية واضحة ولهذا السبب اذا لم تسفر المباحثات التى ستجرى في لندن عن نوع من التفاهم بين الفرقاء الثلاثة خلال مدة معقولة من الزمن فان الحكومة ستتخذ عندئذ قرارها على ضوء درسها للمشكلة وعلى ضوء تقرير لجنة بيل وتقرير لجنة وودهيد والمباحثات نفسها أيضا. ثم تعلن السياسة التى تنوى اتباعها في المستقبل.

       ان حضرات الأعضاء المحترمين. يواجهون في هذه الأيام مشاكل سياسية مختلفة . تتراكم علينا يوما بعد يوم ولكنى أشعر دائما أن مشكلة فلسطين تختلف عن غيرها. فالمشاكل الأخرى تدور حول أمور تتعلق بفن الحكم وهو أصعب الفنون جميعا. ولكنى عندما أحاول معالجة تلك المشاكل أشعر بطبيعة الحال كما يشعر الأعضاء المحترمون بلذة فائقة.

       أما مشكلة فلسطين فليس فيها شيء من ذلك قط. وما هى عليه من التعقيد يجعلنا نواجه أخطر تجربة لبيان مقدرتنا على الحكم ولكن في هذه المشكلة أكثر مما ذكرت. فاننى عندما أبحث في مشكلة فلسطين أشعر برهبة واجلال، اذ أن ذاكرتى لا تعي زمنا لم أسمع فيه عن فلسطين ولا أتخطر وقتا لم تقص فيه على أحاديث الناصرة والجليل والقدس وبيت لحم ومهد السلام.

       لقد عهد الى هذا المجلس خلال تاريخه الطويل الحافل بودائع نبيلة ولكن لم توكل اليه وديعة أقدس من اعادة الأمن والطمأنينة الى ربوع الأراضى المقدسة.

 

 

Scroll to Top